زوالَ الحرب الباردة وتحوّل الاسلام السياسي لاحقاً وانقلابه ضد الولاياتالمتحدة، هو ما عطّل عقودا من العلاقات الطيّبة بين الغرب والاسلاميين، على نحو يجعل من علاقة الرعاية المستحدثة بين واشنطن والاخوان، استعادة لسياق تشوَه على نحو عرضي مؤقت. ميدل ايست أونلاين محمد قواص تخلّص الغرب من خلال عملية طويلة وشاقة من هيمنة اللاهوت على مفاصل السياسة. إخترق هذا الغرب عقودا، وربما قروناً، من الحروب الأهلية والمواجهات الدراماتيكية الدموية، للخروج من سطّوة الطوائف والمذاهب والكنائس على ما هو مدني أُنسوي بَشَريّ. عرف الغرب محاكمَ التفتيش التكفيرية، لكنه عرف التنوير والتنويريين، فلاسفة وأدباء وشعراء. وخاض الغرب حروب المذاهب بين كاثوليك وبروتستانت، حتى خرج من هذا المخاض بالولادة التي أنجبت الحداثة على ما نشهدُ وما يشهدون. فما بال هذا الغرب متمسكٌ عندنا بما لفظه عنده، معادٍّ، على مرّ التاريخ الحديث، لكل حراك أو نظام أو فكرة اقتربت من العلمانية والمدنية والحداثة في منطقتنا. فهل الترياق الحداثوي في ديارهم يفقدُ صلاحيته في ديارنا؟ يتعاملُ الغرب مع الإسلام السياسي بمزاجية أجهزة المخابرات من جهة، وبعبقريّة ما تتفتق به أروقة السياسة الخارجية من جهة ثانية. تقومُ الطائرات الأميركية بدون طيار باستهداف قيادات من تنظيم القاعدة في اليمن وباكستان. ولم تنفع التحذيرات والتهديدات الباكستانية في ثنيّ واشنطن عن الإمعان في سلوكها الجويّ داخل الأراضي الباكستاني ولم تُوقف نداءات اليمنيين تلك العمليات داخل الأراضي اليمنيّة. وفي ميول الرئيس الأميركي السلمويّة، سواء في خططه الانسحابية من أفغانستان والعراق، أو في نأيه بالنفس عن أي تدخل عسكري في سوريا (بما فيه تسليح المعارضة)، أو بمنحِه الدبلوماسيّة الحيّز الأساس في مقاربة الشأن الايرانيّ، فإن الحرب ضد الاسلام الجهاديّ، من تنظيم القاعدة انتهاء بالجماعات على تنوّعها في العالم، بقيت المهيمن على السوك الأمني للادارة الأميركية، إلى حدّ إشراف الرئيس أوباما شخصيا، من واشنطن، على العمليّة العسكرية الأميركية التي أدت الى مقتل أسامة بن لادن. وإذا ما كانت تلك العداوة واضحة بين الجماعات وواشنطن إلى حدّ قتل السفير الأميركي في بنغازي، أو في الإعداد ل "عملية كبيرة" تستهدف مصالح أميركية في العالم (على ما أعلنت واشنطن نفسها وأغلقت على خلفية ذلك سفارات لها في العالم)، فإن الولاياتالمتحدة أضحت تفرّقُ بين المدارس داخل الاسلام السياسي، وتوقفت عن استهداف تياراته بالجُملة على ما كان معمولاً به منذ اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر. وفيما تعتبر أوساطٌ عربية أن الاسلام الجهاديّ خرج تاريخيا، بشكل أو بآخر، ووفق ظروف متعددة، من عباءة جماعة الاخوان المسلمين، وأن الأسس الفقهية التي تطورت عليها الجماعات نهلت زادها من فكر حسن البنا وسيّد قطب وغيرهم، فإن الادارة الأميركية تصرّفت وفق قناعات أخرى، جعلت من الاخوان ملاذ واشنطن في ضبط منطقة يُهيمن عليها التديّن، وفي خلق آلية متوخاة لامتصاص التطرف ومحاصرته بأدوات الحكم في يدّ الاخوان. ضمن تلك المسلّمة التي أنست لها واشنطن وفق "فتوى" مستشرقيها ومستشاريها في شؤون الاسلام والشرق الاوسط، راحت الولاياتالمتحدة تمنح الاخوان غطاء دوليا لإعادة الإمساك بمفاصل المنطقة التي داهمها هذا التحوّل منذ اندلاع الربيع العربي. وقد لا يكون الخيار الأميركي ناتج عن تخطيط مسبق، بقدر ما هو ارتجالٌ لسلوك كان عليها تبنّيه، وبقدر ما هو انصياعٌ لحال، أخطأت حين اعتقدته نهائيا، لا منافس ضده ولا منازع لديمومته. ولا يُعتبر الخيار الاسلامي للولايات المتحدة انقلابا مفاجئا في تاريخ علاقة واشنطن مع المنطقة. فقد تحالفت واشنطن والغرب مع الاسلام السياسي في اطار صراعهما ضد الاتحاد السوفياتي أيام الحرب الباردة. ارتكز الطرفان، في إطار ذلك، على علاقات استراتيجية مع دول كباكستان وتركيا وإيران والسعودية. كما أنها ذهبت واشنطن إلى دعم الاسلاميين عسكريا في أفغانستان لمواجهة الاحتلال السوفياتي، ناهيك عن دعمها وتحالفها مع التيارات السياسية الاسلامية ضد التيارات والانظمة اليسارية والعلمانية في المنطقة. وربما أن زوالَ الحرب الباردة وتحوّل الاسلام السياسي لاحقاً وانقلابه ضد الولاياتالمتحدة، هو ما عطّل عقودا من العلاقات الطيّبة بين الغرب والاسلاميين، على نحو يجعل من علاقة الرعاية المستحدثة بين واشنطن والاخوان، استعادة لسياق تشوَه على نحو عرضي مؤقت. ولا ريب أن مشهدَ الوفود الغربية التي تتدفق على القاهرة مُلتمسة الاطمئنان على الرئيس المخلوع والاجتماع بقادة الاخوان، كما قبول القاهرة لوساطة هذا الغرب مع الاخوان، ما هو إلا تعبير عن قلق الغرب على حلفائه من ذلك الحراك المصري السياسي الصاعد والذي لا تتحكم واشنطن والغرب بمفاتيحه. فالغرب غير مطمئن لتلك النخب التي حسمت أمرها في مصر وتتقدم باضطراد في تونس، كما كان مطمئناً للاخوان في مصر والنهضة في تونس وغيرهم في بلدان أخرى. عادت الولاياتالمتحدة للإستناد على الاسلام السياسي في المنطقة كعصب أساس في التحكم بمسارات المنطقة. ووفق ذلك الخيار بَنت واشنطن استراتيجياتها العالمية، بحيث تعهد أمر منطقة الشرق الأوسط إلى إسلام "مدجّن" برعاية اخوانية، وترفع بالمناسبة منسوب التوتر بين السنّة والسنّة، كما منسوب التوتر بين السنّة والشيعة. التوتر الأول يبقي الولاياتالمتحدة مرجعا للجميع يقفون عند بابها لتسوية النزاعات، بينما يتولى التوتر الثاني رفع حاجة المنطقة للرعاية الأميركية، وما يعنيه ذلك من رواج لتجارة الأسلحة الأميركية في العالم العربي. ناهيك عن أن استكانة الولاياتالمتحدة لاستراتيجيتها الاسلامية في المنطقة، يتيح لها التفرغ بسهولة لاستراتيجياتها المستجدة المتعاملة مع "الخطر الصيني" الصاعد. بالمقابل، تبرز روسيا في مناكفتها للولايات المتحدة مُنطلقة من عدائها الكامل، ودون مواربة، للاسلام السياسي برمّته. تعيش موسكو الخطر الجهاديّ بعد أن خبرته في القوقاز وداخل مدنها وما زال خطره ماثلا رغم المقاربات الأمنية العسكرية الروسية في هذا المضمار. كما أن روسيا تعتبر أن التيارات الاسلامية التي عملت ضدّها لطالما استفادت من عطف أميركي - غربي، وإن كان بروزه ظهر وفق أشكال القلق على حقوق الانسان، وبالتالي فإن تلك الحركات الجهاديّة تصبّ موضوعيا في مصلحة الأجندة الأميركية في العالم. واذا ما كانت موسكووواشنطن متفقتين حالياً على نفس النظرة بالنسبة للجهاديين في سوريا، فإن واشنطن ترى الأمر من منظار إسرائيلي، بينما تراه موسكو من منظار روسي على علاقة مباشرة بأمنها القومي. واذا ما صحّ أن روسيا زوّدت المصريين بالمعلومات والصور التي رصدتها الأقمار الصناعية الروسية حول تحرك الجهاديين في سيناء، وهو أمر أقلق واشنطن ودفعها لاعادة درس مواقفها في مصر، فإن ذلك لا يعني أن القاهرة ذاهبةٌ لتبديل تحالفاتها الاستراتيحية الكبرى، خصوصا أن روسيا نفسها تتلمس طريقها داخل منطقة خبرتها الولاياتالمتحدة وعرفت مفاتيحها. وقد يكون ما يقلق واشنطن كما موسكو، هو أن العواصم كانت تعرف من هم الاخوان، عقيدة وسياقا ومواقف وشخوص، لكنهما حتى الآن يجتهدان للتعرّف على هوية البديل المصري وبدائل أخرى قد تستجد في المنطقة (لا سيما في تونس)، هي قيّد التشكل وفق آليات لم تعهدها المنطقة، ولا العالم، من قبل. في الصراع المستجد بين الغرب وروسيا، وهو صراع قد لا يصلُ إلى حدود الحرب الباردة، يستعيد الغرب ذكرياته مع الإسلام السياسي، ويتحرى امكانات تأقلمه مع الدينامية الاسلامية الصاعدة، طالما أنها الخيار الأمثل للحفاظ على المصالح. بعض الخبثاء يعتبرون أن هذا الحلف "عضال" تستصعي سُبل فك وثاقه، فيما يوصف هذا الحلف بزواج المتعة الذي يجمع الطرفين آنيا وتكرارا كلما رغب الطرفان في ذلك. على أن هذا الغرب يصطدم هذه المرة، ليس فقط بخيارات موسكو المضادة (وهو أمر ثانوي في السياق الحالي)، بل بحركة تاريخ تداهم المنطقة لا ينفعها علاج محليّ سائد، ولا يستقيم معها ترياق الخارج. محمد قواص