لم يكن هناك خيار اصلا بين الانصياع لقوى التغيير الشعبي التي تضرب العالم العربي اليوم تحت مسمى الربيع العربي وبين المحافظة على الوضع الراهن بحجة الخوف من الوقوع في مصيدة مؤامرة عالمية تهدف الى تقسيم منطقتنا من خلال سايكس-بيكو جديدة. ومن السذاجة الاعتقاد بأن ما يحدث في العالم العربي اليوم يدار بأزرار من قبل قوى خارجية معادية. وبنفس المقدار فانه لا يجوز إدانة الربيع العربي من قبل البعض لأن التغيير في ليبيا واليمن شجع حركات انفصالية او اطلق دعوات للفيدرالية، وقد يهدد بتمزيق سوريا وغيرها في المستقبل. غاب العالم العربي عن تقرير مصيره لعقود وربما قرون تكرست خلالها انظمة حكم شمولية وفئوية وقبلية وعسكرية هي نتاج عهود الاستعمار المتوالية التي مرت بقنوات سايكس-بيكو ومعاهدات التحالف والصداقة والحماية والاستقلال ابتداء من بلاد الشام وحوض ما بين النهرين والخليج العربي والجزيرة العربية وانتهاء بشمال وشرق افريقيا. المدافعون عن الوضع القائم خوفا من التغيير انما يدافعون عن ارث سايكس-بيكو البغيض. وبعيدا عن رومانسية الوحدة العربية من الخليج الى المحيط وجدت الشعوب العربية الثائرة نفسها في مأزق تاريخي: الانتصار لقيم العدالة والديمقراطية وحقوق الانسان في غياب الدولة الحديثة متكاملة العناصر. التحدي الماثل امامنا اليوم هو في التوصل الى آلية لبناء هذه الدولة الحديثة القائمة على اركان تلك القيم. اما الفيدرالية فهي نظام سياسي توافقي قائم في العديد من دول العالم التي تتميز بتنوع اثني وديني وعرقي وحتى ثقافي. والدعوة الى نظام فيدرالي ليست خيانة او كارثة وكذلك الأمر بالنسبة لمن ينادي باللامركزية كنظام حكم. الصحيح ان الربيع العربي يمثل بداية رحلة طويلة من النضال الشعبي لبناء دولة حديثة قادرة على التصدي لتحديات هذا العصر. انه استكمال لعملية البحث عن الذات بعد عقود طويلة من الاستنقاع والجري في دوائر مغلقة. حتى الانظمة الشمولية المركزية العربية لم تنجح في قمع الحركات الانفصالية كما في حالة العراق والاكراد او السودان وجنوبه. وحتى لو بقي نظام علي عبد الله صالح في اليمن فانه كان سيواجه استحقاقات تمرد الحوثيين في الشمال ودعوات الانفصال في الجنوب. ودعوة بعض الليبيين في الشرق الى انجاز نظام فيدرالي يحقق نوعا من العدالة التي كانت مفقودة ابان حكم القذافي ليست كفرا وانما هي تعبير عن واقع سياسي كان معمولا به حتى مطلع الستينات. وما الضير اذا ما نتج نظام فيدرالي في ليبيا يحقق اركان الدولة الحديثة؟ علينا ان نواجه حقائق قد تكون صادمة للبعض وهي ان العالم العربي متعدد الاثنيات والثقافات وان الانظمة التي فشلت في بناء الدولة الحديثة خلال عقود القرن العشرين تجاهلت هذه الحقائق وحكمت بالحديد والنار. نحن امام واقع جديد والرحلة نحو غد مشرق لا تزال في بدايتها وسنواجه حتما كثيرا من التحديات والعوائق والانتكاسات وقد نشهد عودة مؤقتة لانظمة حكم شمولية تحت شعار الدين او القومية. لكن الشعوب التي ثارت رفعت مطالب لا يمكن تجاهلها من ديمقراطية وعدالة وحرية وحقوق انسان. هذه هي القيم المشتركة التي توحد الشعوب والامم في نهاية المطاف! .