المنامه 19-9-2012-سونا هذا الأسبوع في البحرين بحق هو أسبوع بروفسير محمد يونس صاحب الفكرة و مؤسس جرامين بنك في بنجلاديش بلد ملايين الفقراء و المحتاجين. تشرفت بمعرفة بروفسير يونس في منتصف ثمانينات القرن الماضي بعد أن حصل علي رخصة تأسيس جرامين بنك، بنك الفقراء والمعوزين و صار من المصرفيين اللامعين. و لقد كانت فكرة جرامين بنك جديدة تماما وسط دهاقنة المصارف و الاقتصاد حيث يتعاملون بالضرورة مع أصحاب الأموال والثروات و من مكتنزي القروش في الحسابات المصرفية وحائزي شهادات ملكية العقارات و الأسهم إضافة للأسماء التجارية اللامعة التي تبحث عنها البنوك. والتقينا بعد ذلك في عدة مؤتمرات مصرفية حيث ظل يجوب العالم لشرح أفكاره و الدعوة لتطبيقها، و من اللافت للنظر قناعته الكاملة و إيمانه القوي بفكرته و التي بدأ العالم يتفهمها و يستشعرها بدليل منح بروفسير يونس جائزة نوبل في الاقتصاد و هذا يعتبر أكبر عرفان و شهادة براءة عالمية لما يدعو له من اقتصاد جديد، و لو كره الكارهون. بدأ كل العالم شرقا و غربا يتسارع في تطبيق فكرة بنوك الفقراء و المحتاجين و التمويل الأصغر و المتناهي الصغر و في هذا أيضا دليل عملي علي قناعة العالم بما بدأه بروفسير يونس وحيدا. و لكن لا بد من القول أن هناك فروقات في التطبيق الذي أخذ مناحي عديدة من أبرزها ، مثلا ، أن جرامين بنك ظل و ما زال يركز في عمله علي شريحة جندر النساء فقط ، و في هذا له فلسفته الخاصة و رؤيته المحددة حيث يقول أن منح التمويل للنساء يضمن العمل علي إزالة فقر الأسرة أكثر مما لو منح التمويل للرجال. و أن المرأة عندما تشعر بزيادة دخلها فإنها و بغريزتها تستغل هذه الزيادة في "الأمور المنزلية" مثل شراء أواني المطبخ أو حذاء للأطفال أو سرير جديد أو ترميم المنزل المتصدع ... و هكذا، بينما أذا كان التمويل في يد الرجل و شعر بزيادة الدخل فانه يفكر في شراء أشياء تخصه هو أي أنه لا يفكر في البيت والأسرة كما تفعل المرأة في أغلب الأحوال. و هو يقول أن تجاربهم الطويلة أثبتت أن رؤيتهم، في حصر التمويل للنساء فقط ، صحيحة و سليمة في القضاء علي فقر الأسر و من ثم المجتمع بكافة روافده. من تجارب بروفسير يونس في بدايات عمله، و التي يعتبرها مؤلمة ، أن الجميع كان يقف ضد فكرته و علي رأس معارضيه البنك المركزي ببعض الممارسات و التوجيهات الفوقية ، و من خلفه غالبية السلطات الرسمية و الحكومية الأخرى. و كذلك المجتمع يقف ضد فكرته أيضا ، و علي رأسه جندر الرجال ومعهم رجالات الدين و المشايخ الذين شعروا أن "هذا" البنك يساعد جندر المرأة في الاستقلال و الخروج عن هيبة الرجولة و المشايخ من خلفهم. و يحتفظ البنك في ملفاته ببعض الرسائل الاستهجانية التي تصلهم من جندر الرجال وشيوخ الدين و زعماء القبائل. بل و صلهم في البنك خطاب شديد اللهجة من البنك المركزي، و الخطاب موجود في ملفات البنك، يطلب منهم توضيح الأسباب التي تجعلهم يحصرون التمويل في النساء فقط دون الرجال. و كان رد بروفسير يونس للبنك المركزي متسائلا هل طلبتم من البنوك الأخرى إفادتكم بأسباب حصر تمويلهم في الرجال دون النساء حتى تسألوني هذا السؤال عن تمويل النساء. وصمت البنك المركزي عن الرد و لم يطرح هذا السؤال مجددا. و لنا أن نتخيل كيف كان يعاني جرامين بنك في فترته الأولي حيث كان يترقب حضور النساء و هناك أسلاك شائكة عديدة تمنعهم من العبور للبنك و أكبر الأسلاك الشائكة كان الأزواج الذين يمنعون زوجاتهم من الخروج من المنزل ناهيك عن ذهابهن للبنك و الجلوس مع الموظفين و مناقشتهم في التمويل و الحصول علي القروض المتناهية الصغر من أجل الحياة و من أجل تسهيل "أمور المعيشة" التي يعتبرها الكثير من الرجال أنها من صميم رجولتهم. و لكن بالكثير من الصبر و الإيمان بالقضية ، أثبت جرامين بنك و زبائنه من جندر المرأة أن بإمكانهم العمل سويا لتحقيق الهدف. و مع مرور الأيام ظهرت قصص النجاحات الصغيرة والمتواضعة جدا و بدأ الفقر يخرج من البيوت رويدا رويدا و هذا جعل الجندر الآخر يقتنع بل و يحس بالوجود الفعلي للفائدة لأن مشاعر الجوع و العري بدأت في الاختفاء من البيوت و ظهرت البسمة علي وجوه الأطفال. بل شعر المجتمع بالحراك الاقتصادي في كافة المجالات و تحولت شرائح كبيرة من المجتمع لدعم نشاطات جرامين بنك لأثره الواضح في إزالة آثار الفقر المدقع و تحسين أحوال الفقراء و المحتاجين في كل البلد عبر المساعدات البسيطة المقدمة لربة البيت و "الدينمو" المحرك له. بدأت الفكرة في ذهن بروفسير يونس في بداية عام (1980) و تقمصته هذه الفكرة لدرجة تفرغه لها و بدأ يجاهد للحصول علي الرخصة لجرامين بنك من البنك المركزي البنغلادشي و تم إصدار الرخصة في عام (1985) و بدأ العمل الذي ظل لفترة مع عدد لا يتجاوز أصابع اليد و بمبالغ لا تتعدي ما يعادل مئات الدولارات و الآن هذا النشاط يغطي كل قري و أحياء بنغلاديش و تبعهم كل العالم و المبالغ الدائرة في هذا النشاط تتجاوز الآن آلاف المليارات حيث يشمل كل القارات المتقدمة و المتخلفة و تلك الغنية أو الفقيرة. و من تجارب جرامين بنك الثرة اعتزازهم بأن بنوكهم العاملة في أمريكا لم تتعرض لأي هزة عندما سقط الاقتصاد الأمريكي و تبعته البنوك العملاقة التي تغطي لوحاتها كل سماوات العالم و ظلت مؤسسات جرامين بنك صامدة و قائمة و مستمرة من نجاح لنجاح. و هكذا تتقدم الرسالة التي يعمل من أجلها جرامين بنك وفق فلسفة مكتشفه و مؤسسه. تمويل جرامين بنك في أغلب الأحوال لا يتعدي ما يعادل دولارات قليلة لكل امرأة عميل و هن يقمن باختيار المشروع في كافة مجالات الحياة اليومية و من واقع متطلبات البيئة التي يعشن فيها و صرن يتبادلن المعلومات و التجارب مع بعض و مع البنك و هذا ، في حد ذاته خلق ، ثقافة مصرفية جديدة تتضمن ممارسات و تقاليد جديدة. و يتميز هؤلاء النساء بالحرص الشديد علي الأموال التي تمنح لهن و يحرصن أكثر من أجل إعادتها للبنك ليتم تقديمها و إعادة تسليفها لهن أو لأمهاتهن أو لأخواتهن أو لصديقاتهن و هكذا سار دولاب العمل في جرامين بنك و هكذا توسعت قاعدة العمل وتوسع البنك و صار سائرا قائما باعتزاز شديد. و هذا بالطبع لا يعني سلامة الموقف مئة في المئة في جميع الحالات، بل هناك بعض المشاكل و بعض العقبات و بعض الكبوات و لكن معظمها في حدود المعقول المتوقع، و هكذا يستمر البنك ككل البنوك و كما يحدث في أرقي العائلات. و مع مرور الزمن تطورت أفكار بروفسير يونس إلي أفكار أوسع لمحاربة الفقر و ذلك عبر الانتقال من مرحلة خدمة المجتمع عن طريق تمويل الفرد إلي فكرة ريادة الأعمال المجتمعية للفرد و مجتمعه. و هذا يتمثل في الأفكار الجديدة حول ريادة الأعمال المجتمعية ... و هذا ما ينشط فيه بروفسير يونس الآن بكل الحماس الذي بدأ به فكرة تمويل الأفراد الفقراء عبر جرامين بنك ... و هكذا تعمل الرجال ، ويجدد بروفسير يونس أفكاره و يلبسها لبوسا جديدا بالانتقال للمرحلة الجديدة التي تحمل في معيتها الكثير و الكثير ... و لنا عودة