-تظل قضية تأثير وتأثر المكونات البشرية والحضارية لأهل السودان في حقب التاريخ المتعاقبة من القضايا اللازمة للبحث والتنقيب خاصة وأن المرحلة الراهنة التي تحيط بالسودان في جواره القريب والإقليمي والعالمي تستوجب الانتباه إلى هذا الجانب لبيان عمق الصلات التي تأسست بين السودان الجغرافي والسكاني والحضاري والثقافي وبين أقاليم القارة ومحيطه الأسيوي والأوروبي وحتى الأمريكي شماله وجنوبه ، بشكل يفتح (كوات) لبناء علاقات السودان الخارجية على أسس جديدة مرتكزة على القواسم المشتركة بين أهل السودان ومناطق التأثير والتأثر تتيح للبلاد مساحات جديدة للحركة والتفاعل الايجابي بالإفادة من هذه الامتدادات العرفية والحضارية والثقافية تمكن من ترسيخ علاقات السودان الإقليمية والدولية المعاصرة بوعي جديد تستوعب التجارب الإنسانية المماثلة في عالمنا المعاصر ونستدعى بها (الحكمة) التي هي ضالة المؤمن . اقتضتني هذه المقدمة المفتاحية بمناسبة اقتناء دار الوثائق القومية واحدة من أغنى وأثرى الوثائق التاريخية النادرة التي تؤرخ لتأثير أهل السودان ودورهم في تشكيل الأوضاع في جواره العربي والإفريقي بخاصة واعني بتلك الوثيقة كتاب " إمبراطورية رابح " لمؤلفه السوداني أرباب جماع بابكر، الرجل الثاني في الدولة التي أسسها رابح فضل الله في السودان الأوسط وتحديداً في تشاد الحالية ابتداءً من العام 1879م، تاريخ انفصاله عن سليمان الزبير وخروجه من السودان متوجهاً إلى منطقة أوبانقى شارى في جمهورية أفريقيا الوسطى الحالية التي احتضنت بداية مشروع دولة رابح فضل الله في السودان الأوسط . يؤرخ كتاب " إمبراطورية رابح " الذي يقع في 94 صفحة من الحجم الصغير والصادر في باريس في العام 1950م لأصول القائد رابح فضل الله الذي يعود انتماؤه إلى قبيلة " الفونج " في (منطقة جبل إدريس) في سنار وميلاده في حلفاية الملوك في العام 1845م حيث أستقر والده الذي كان يعمل في الجيش التركي ثم رحل رابح إلى مصر والالتحاق بجيش الخديوي وعودته إلى السودان والعمل مع الزبير باشا في منطقة بحر الغزال ومرافقة سليمان الزبير من بعده بعد اعتقال الزبير بالقاهرة. ويبين الكتاب الصادر باللغة الفرنسية اختلاف رابح مع سليمان الزبير عندما أراد الأخير التسليم إلى جسي باشا وأخيراً خروج (رابح) من السودان وتوجهه والقوات التي انضمت إليه إلى الجنوب الغربي حيث بحيرة تشاد . وتتطابق الحقائق والمعلومات الواردة فيه مع حقائق بحث علمي رصين للأستاذ / بشير عربي بشير أحمد بعنوان (رابح فضل الله ودولته في السودان الأوسط) أعده في العام الجامعي 1998/1999م للحصول على دبلوم الدراسات المعمقة من جامعة الملك فيصل بجمهورية تشاد . ومن الأدوار المهمة التي يركز عليها كتاب " إمبراطورية رابح " الدور الذي قام به رابح في نشر الإسلام وسط القبائل الوثنية في منطقة أوبانقى شارى التي شهدت المراحل الأولى لمشروع رابح الذي انتهى به إلى أقامة دولة في تشاد كما يؤرخ الكتاب إلى صراع رابح مع مملكة /وداى) ثم صراعه غير المباشر مع الفرنسيين بعد مقتل المستكشف (بول كرمبل ) عام 1891م إضافة إلى حروبه ضد السلطان (قورنق) سلطان الباقرمى وحصاره في مدينة (منجفا) ومن ثم انتقال رابح إلى منطقة (كرنك) بعد هروب سلطان الباقرمى إلى الجنوب . ويسلط المؤلف (أرباب جماع بابكر) في هذا الكتاب الأضواء على الأوضاع التي كانت تسود في منطقة السودان الأوسط قبل مجئ رابح فضل الله إليها خاصة في ممالك برنو وباقرمى ووداى وسلطنة دارفور والدور الاستكشافي والاستخبارى الذي قام به الأوربيون بالمنطقة ، ويمهد الكتاب بذلك إلى قيام ( دولة رابح في برنو في العام 1893م) ويعرض مواجهات رابح العسكرية مع السلطات المحلية في تشاد وسياسة رابح الداخلية والإدارية الخاصة بتقسيم الولايات وتكوين الأجهزة التنفيذية والعسكرية الأخرى وأصباغ الدولة بالشريعة الإسلامية ونقل العاصمة من (كيكوه) إلى ( ديكو ) ثم القضاء على المحاولات الانقلابية التي تعرض لها . المؤلف أرباب جماع بابكر القائد الثاني في هذه الدولة يفرد حيزاً لسياسة رابح الخارجية وعلاقاته بممالك المنطقة وبالدول الأوربية خاصة مع بريطانيا ، وألمانيا مع فرنسا التي حاولت كسب ود رابح من خلال وساطة الزبير باشا المعتقل في القاهرة وتنتهي هذه العلاقة بمواجهة عسكرية بين رابح وفرنسا في معركة (كسرى) التي خاضها رابح ضدها في مواجهة ثلاثة حملات بقيادة القائد الفرنسي (لامي ) وهى المواجهة التي انتهت باستشهاد هذا البطل السوداني المجاهد ضد النفوذ الأوروبي في المنطقة في 22 أبريل 1900م. القائد ارباب جماع بابكر مؤلف هذا الكتاب يعطى ملامح لعبقرية (رابح فضل الله ) السياسية والعسكرية وفكرة الاستراتيجي ووضوح رؤيته التي تأسست على ترسيخ أركان الإسلام في المنطقة بالدعوة وبتأسيس دولة تهتدي بالشريعة الإسلامية وتكون أولى أهداف هذه الدولة مواجهة التوسع والاستعمار الأوروبي في السودان الأوسط وفى تشاد والممالك المجاورة . وكانت أولى مراحل بروز السمات القيادية في شخصية القائد (رابح فضل الله ) وبصورة جلية في حملة البلالى التي استهدفت الزبير باشا ، في منطقة بحر الغزال في العام 1872م والتي أثبتت كفاءة رابح العسكرية ومهارة قيادية حربية عالية دفعت الزبير إلى رفعه إلى درجة الجندي ثم الضابط ثم قائداً عاماً لجنوده عرفاناَ بدوره في دحر حملة البلالى ومطاردته والقبض عليه وقتله في (ديم جوجو) كما شارك رابح في معارك الزبير ضد الرزيقات وحملة دارفور التي انتهت بمقتل السلطان إبراهيم في معركة (منواشى) في أكتوبر 1874م . لقد حرص مؤلف كتاب " إمبراطورية رابح " القائد أرباب جماع ومنذ الصفحات الأولى في هذا الكتاب أن يقطع الشك باليقين فيما يتصل بنسب رابح فضل الله وانتمائه لقبائل الفونج في جبل إدريس بمملكة سنار التي انتقل منها والد رابح فضل الله وأسرته إلى منطقة الحلفايا بالخرطوم في العام 1821م والاستقرار بها بعد نهاية خدمته العسكرية في الجيش التركي وإنجاب رابح اكبر أبنائه من زوجته (زيدان) في حلفايه الملوك في العام 1845م . أما صلة فضل الله بالزبير باشا فتعود إلى صلة المكان حلفاية الملوك التي تنتمي إليها أسرة الزبير باشا والذي يبدو انه اكتشف ومنذ وقت مبكر سمات القيادة والشجاعة والمهارة العسكرية في (رابح فضل الله ) فاصطحبه إلى (ديم الزبير/ للاستفادة منه في تدريب قواته هناك الأمر الذي أتاح لرابح اعتلاء عرش القيادة العسكرية في قوات الزبير ليصبح قائداً عاماً لها بعد حملة البلالى مما فتح الطريق أمام رابح إلى التفكير في تحقيق طموحاته في تأسيس دولة في السودان الأوسط منذ انفصاله عن سليمان الزبير بعد حروب الزبير في دارفور والخروج من السودان إلى إفريقيا الوسطى الحالية والى تشاد لبداية مشوار تأسيس هذه الإمبراطورية . أن العبرة التي يقدمها كتاب إمبراطورية رابح ، وأخيراً الحقائق التي تكشفت من الإسهام العلمي الذي كشفته مؤلفات عضو البرلمان الجنوبي إفريقي د. ما تولى مونشيقا الذي زار السودان مؤخراً والتي أكدت وجود علاقة بين السلالات الحاكمة في منطقة ليمبوبو الجنوب افريقية والحضارة السودانية القديمة وتحديداً في ممالك نبته وكردفان هي رسوخ تأثير أهل السودان الحضاري والثقافي والسياسي ودورهم في تشكيل الأوضاع في المحيط الجغرافي القريب والإقليمي والعالمي خاصة عندما تقودنا الدراسات التاريخية والانثروبولوجية والاثارية الحديثة إلى وجود ارتباط وثيق بين الحضارات السودانية في حقبها المختلفة وعدد من مناطق العالم في إفريقيا وأمريكا اللاتينية واستراليا وحتى في حضارات اليونان والرومان القديمة . والكتاب دعوة للمؤرخين لإعادة قراءة تاريخ السودان وإسهامه الحضاري على أسس جديدة اعتماداً على هذه المصادر الأصيلة عن تاريخ وحضارة السودان وتأثيره في القارة والعالم.