المانيا 30-10-2019م (رويترز) - قبل أسابيع قليلة من توليها رئاسة المفوضية الأوروبية، قالت أورسولا فون دير لاين إن المفوضية ستكون "كيانا جيوسياسيا". وبحسب "رويترز"، ذكر أندرياس كلوته الكاتب والمحلل الألماني أن هذا التصريح يعكس مدى قلق الاتحاد الأوروبي من اندفاع العالم مرة أخرى نحو نظام ثنائي القطبية تقوده الولاياتالمتحدةوالصين. وأضاف كلوته أنه قد لا يمر وقت طويل قبل أن يجد الاتحاد الأوروبي نفسه محصورا بين قوتين هائلتين هما الصينوالولاياتالمتحدة. ورغم أنه من المفترض أن الولاياتالمتحدة حليف وليس منافسا، فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب يتعامل على الصعيد التجاري مع أوروبا باعتبارها عدوا أكثر منها صديق. وكرئيس شعبوي وسياسي وطني يعارض تعامل الاتحاد الأوروبي باعتباره كيانا واحدا متعدد الأطراف، كما أنه أثار الشكوك في استمرار الولاياتالمتحدة في الدفاع غير المشروط عن حلفائها الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي "ناتو"، ومعنى ذلك أن ترمب ينسف مبدأ أوروبيا مستقرا. ومنذ الخمسينيات اعتمدت أوروبا الغربية على الترسانة العسكرية والنووية الأمريكية، وعلى الدور المسيطر للولايات المتحدة في النظام العالمي، باعتبارها شروطا أساسية للأمن والاستقرار في أوروبا، ومن دون الحماية الأمريكية، ستشعر أوروبا أنها عرضة للمخاطر. في المقابل، فإن أوروبا تعد الصين عدوا، لأنها تمثل البديل للنظام الديمقراطي الليبرالي الغربي، وعلى مدى أعوام طويلة ظلت أوروبا تتعامل مع الصين باعتبارها سوقا ضخمة للتصدير، لكن هذا الوضع تغير الآن، بعد أن اتجهت الشركات الصينية إلى الاستحواذ على شركات التكنولوجيا الأوروبية المتقدمة. وشعر الألمان بقلق شديد عندما اشترت شركة صينية شركة "كوكا" الألمانية الرائدة في مجال تكنولوجيا الإنسان الآلي. وفي العام الماضي تدخلت الحكومة الألمانية لأول مرة لمنع صفقة استحواذ صيني على إحدى الشركات الألمانية. في الوقت نفسه، فإن الصين ومن خلال مبادرتها التنموية الدولية "الحزام والطريق" تستخدم مشاريع البنية التحتية والمساعدات المالية؛ لتحويل بعض الدول الأوروبية إلى ورقة دبلوماسية تستخدمها في التعامل مع الاتحاد الأوروبي. وتنظم الصين منتدى"17 زائد 1" للتواصل مع دول شرق ووسط أوروبا. وعلى سبيل المثال تسيطر الصين على ميناء بريوس اليوناني الشهير، كما تمول مشاريع طرق سريعة وخطوط سكك حديدية بين دول البلقان والمجر. لذلك لم تكن مفاجأة أن تتدخل اليونان والمجر لتخفيف لهجة بيانات صادرة من الاتحاد الأوروبي أو منع صدورها، تتعلق بسجل حقوق الإنسان في الصين أو الممارسات الصينية في منطقة بحر الصين الجنوبي المتنازع عليها بين دول عديدة. والمعروف أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى إجماع الدول الأعضاء لإصدار أي بيان أو اتخاذ أي موقف يتعلق بالسياسة الخارجية، وهو ما يعني أن بكين أصبحت قادرة على التأثير في السياسة الخارجية الأوروبية بصورة كبيرة. وإلى جانب الكابوس الذي يمثله التهديد الصيني، والتحولات في السياسة الأمريكية، هناك كابوس جيوسياسي آخر يتمثل في روسيا وتركيا. ورغم أنهما أصغر من الصينوالولاياتالمتحدة، فإنهما أقرب إلى أوروبا وهو ما يعني أن خطرهما لا يستهان به. المعضلة التي تواجه الاتحاد الأوروبي في ظل هذه الحقائق الجيوسياسية، هي أن الاتحاد نشأ كمشروع للسلام على أنقاض الدمار الذي تسببت فيه النزعات الوطنية لدول القارة قبل الحرب العالمية الثانية. كما أن جوهر الاتحاد الأوروبي حاليا هو القوة الناعمة والتعاون، ومعنى هذا أن الاتحاد الأوروبي في ذاته يبدو كمفارقة تاريخية. وفي ملاحظة طريفة، قال زيجمار جابرييل وزير خارجية ألمانيا السابق إن "الأوروبيين مثل نباتيين في عالم من أكلة اللحوم" ومن دون البريطانيين، باعتبارهم الأفضل تسليحا في أوروبا حاليا، ستصبح أوروبا أشد قربا من النباتيين. ويرى الكاتب الألماني أندرياس كلوته، في التحليل الذي نشرته وكالة بلومبيرج للأنباء أن أوروبا تستطيع تعزيز قوتها من خلال الوحدة، مشيرا إلى القوة التي يتمتع بها الاتحاد الأوروبي على صعيد التجارة العالمية؛ لأنه يتفاوض ككتلة واحدة، ولكن للأسف الشديد فإن هذه الوحدة الاقتصادية ليس لها الصدى نفسه على الصعيد التشريعي ولا العسكري. وحذر كلوته من أن القوانين الرقمية الحالية في الاتحاد الأوروبي، ستهدد فرص لحاقه بالولاياتالمتحدةوالصين في مجال الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد على استخدام كميات هائلة من البيانات ويحتاج إلى تخفيف قوانين حماية خصوصية البيانات. كما أن القوانين الأوروبية الصارمة بشأن مكافحة الاحتكار وحماية المنافسة، تحد من فرص ظهور كيانات أوروبية عملاقة قادرة على منافسة الكيانات الأمريكيةوالصينية. وبحسب كلوته، فإن هذه الفكرة قد تكون في صالح جماعات الضغط التي تمثل مصالح شركات أقل كفاءة في التعامل مع آليات السوق العالمية، وعلى حساب المستهلكين في أوروبا. وهنا تأتي معضلة جديدة لأوروبا، وهي كيف تدافع عن نفسها في مواجهة الآخرين، وفي الوقت نفسه لا تتخلى عن نقاط قوتها التي تتمثل بشكل أساسي في انفتاح الاتحاد الأوروبي، سواء كسوق للمنتجات أو كساحة للأفكار، فحتى عندما تدافع عن نفسها، لا يجب على أوروبا أن تتخلى عن ليبراليتها وإلا فإنها لن تظل في صورتها الأوروبية. إذن فعلى أوروبا الحرص على وحدتها حتى في أقصى حالات الانقسام، وعلى سبيل المثال فإن الاتحاد الأوروبي كأكبر مانح للمساعدات التنموية في العالم، يمكنه مواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية من خلال شبكة مشاريعه التنموية في أوروبا وإفريقيا. لكن للأسف الشديد يتم إهدار كثير من الأموال الأوروبية من خلال بنوك التنمية الوطنية مثل صندوق التنمية الأوروبي الموجود في لوكسمبورج وبنك التعمير الأوروبي، وعلى المفوضية الأوروبية إعادة النظر في هذه الآليات. ويرى أندرياس كلوته المحلل الألماني، أنه تجب إعادة النظر في قواعد التصويت داخل الاتحاد الأوروبي بحيث يتم التخلي عن شرط الإجماع لإصدار القرارات والاكتفاء بموافقة 55 في المائة من الدول الأعضاء التي تضم 65 في المائة من سكان الاتحاد لإصدار القرار، فهذه القاعدة الجديدة ستحمي الاتحاد الأوروبي من العجز الدبلوماسي في مواجهة الأزمات الدولية. ويحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تطوير قدراته العسكرية، حيث يقول فريدريك الكبير، إن الدبلوماسية من دون قوة عسكرية، مثل موسيقى من دون آلات، وكما قال زيجمار، فإن الفارق بين النباتيين وأكلة اللحوم هو امتلاك أسنان، وعلى أوروبا أن يكون لها أسنان. فالاتحاد الأوروبي لا يضم سوى دولتين تمتلكان ترسانة نووية، وهما بريطانياوفرنسا، وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد لن تبقى له سوى فرنسا. ومع ذلك فإن فكرة إنشاء "الجيش الأوروبي الموحد" التي ظهرت قبل عامين تقريبا، تصطدم بمدى استعداد الدول للتنازل عن جزء مهم من سيادتها، عندما يتعلق الأمر بقرار إرسال جنودها إلى مناطق الخطر خارج الاتحاد. أخيرا فإنه من حق فون دير لاين وزملائها في المفوضية الأوروبية أن يشعروا بالقلق بشأن الأوضاع الجيوسياسية، فهم يدركون أن أوروبا لن تتحول إلى آكلة لحوم لكن على الأقل يمكن أن تتحول إلى "شبه نباتية" بحيث تتمكن على الأقل من عض خصومها وليس افتراسهم.