مواصلة لما سبق: قال الشيخ ادريس في المناظرة إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره في «الحضرة النبوية» بحرمة التنباك، بشهادة الشيخ الهميم والقاضي دشين والشيخ حسن ود حسونة.. كانت تلك الحضرة، كما هو واضح في سياقها الذي حكاه ود ضيف الله، أنها كانت عقداً لاقناع الأحياء بحرمة التنباك، ولتطهير الموتى ممن كانوا يتعاطونه كالقاضي دشين. ففي الرواية، قيل أن الشيخ العركي خاطب القاضي دشين داخل قبره استجوبه ما يكفي لتأكيد أن القاضي دشين، قد تلفح رداء التصوف وهو في برزخه..إذ أن القاضى دشين تقول الرواية طلب من قبره شفاعة الشيخ إدريس..» وسأله في القبر فقال: التنباك حرام كلِّم الشيخ ادريس يسأل لي المغفرة بسبب شربي له»..أنظر الطبقات، ص 53 55..هكذا ابتلعت أمواج التصوف العاتية ممثل الفقهاء، فما كان يمكن في مثل ذاك المناخ، أن يدار صراع الغرماء دون الترميز.. ومن هناك أيضاً، دخل التنباك حيازة السياسة بمجرد طرفي النخبة المتصارعة الى بلاط السلطنة.. وتفاعل جمهور العامة مع القضية، التي انتقلت من صراع مذهبي، الى قضية «رأي عام»، بل إحدى أهم القضايا التي شغلت بلاط سلطنة سنار، وصحن الأزهر في مصر.. في مصر تفاعل الموقف حول التنباك، واصطف الناس في الأزهر يراقبون معركة حية بين الصوفية والفقهاء، فجرتها رسالة من الشيخ إدريس ود الارباب للأجهوري. قرأ الشيخ الأجهوري الرسالة.. ولما وصل إلى قول الشيخ إدريس:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال التنباك حرام".. رمى بالمكتوب -الرسالة - في وجه حاملها... قال الشيخ الأجهوري لأبو عقرب تلميذ ود الأرباب: "يا بري شيخك هذا صحابي؟".. وأضمرها أبو عقرب في نفسه، راجياً أن "يَتَبَيّنْ" الشيخ إدريس بكرامة تؤكد فتواه.. في الجمعة التالية يروي ود ضيف الله وقف الشيخ إبراهيم اللّقاني ممثلاً للصوفية، ونداً لمناظرة الأجهوري الفقيه.. وفي هذا ما يكفي لتأكيد حدة الصراع بين الطرفين، وأن التنباك حينها، كان قضية رأي عام في شمال وجنوب الوادي.. فتح الشيخ ابراهيم اللّقاني باب المناظرة قائلاً: "يا شيخ علي، الدخان جابته- جاءت به - النصارى من بلاد الفرنج، وافتتن به المسلمون، وانت افتيتهم بالإباحة ..وهو حرام، لأنه بدعة، ولأنه سرف ولأنه محروق". قال الشيخ الأجهوري رداً على مرافعة اللّقاني: "انت قلت بدعة، فما قولك في الملبوس الذي لم يلبسه الرسول؟ وأنت قلت سرفاً، فما قولك في الرجل، إن كانت نفقة عياله خمسة دراهم، يجوز أن ينفقهم بعشرة دراهم، فإن قلت محروقاً، فما بالك في اللبن، فإنه محروق يجوز شربه؟"..هذا التطويل في الجدل، والذي اعتكر في افئدة النخبة المصرية والسودانية حينها، أخرج الصراع من سياقه العقدي، إذ أنه كان مشحوناً في الأصل بجملة من المواقف المتعارضة... فالصراع في جوهره كان تضاداً بين غرماء الحقل التاريخي... بهذا استعلن خروج الصراع، من حيّز العقيدة ومجادلة العقول إلى "المباهلة" داخل الأزهر، بمثلما جنح روحياً نحو "الحضرة" في بلاط السلطنة.... انتهت المناظرة في الأزهر بعمى الاجهوري أثر ضربة تلقّاها في رأسه من معتزلي..."والعمي يفسر معنى الركون إلى حرفية النص"... وقد فُهِم عمى الأجهوري، على أنه كرامة من الشيخ ادريس»إتْبَيَّنْ»، داخل صحن الأزهر، حيث يتم تفريخ الفقهاء..! ثم يُحظى الشيخ الأجهوري بكرامة في عماه.. يقول ود ضيف الله، أن الأجهوري "رأى النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً له: أترضى أن تلاقي رَبك وفي فمك مزمار من نار؟.. حينها ثاب، وأعلن تصديقه لفتوى الشيخ إدريس، ودعا تلميذه، وطايبه، وأرسل معه التحية والهدية... كانت الهدية عبارة عن راية عليها التاريخ 976ه ، ومع الرّاية كسوة، لم يزل يتوارثها مشايخ القادرية في الجزيرة"..!