قرى حلفا: عاش الناس في حلفا العتيقة حياة القرية، وسلكوا دروب أخلاق القرية، من احترام للكبار، وإلتزام بالقيم، ورغبة في التكافل، وإحساس بالآخر، مريضاً يجتمعون حوله، محتاجاً يشدون من أزره، وكانوا يعيشون حياة جماعية، أي مريض هو مريض القرية كلها، أي راحل إلى العالم الآخر هو جزء لا يتجزأ منهم، يقضون مع أسرته كل أيام العزاء، ويغنونهم عن تجهيز الغذاء، ويوفرون لهم الماء، ويقومون بضيافة الضيوف، يحملون كل هموم بعضهم مع بعضهم، والأفراح إذا وزعت زادت والأحزان إذا قسمت هانت، وعندهم تزيد الأفراح كل الشباب يخرجون في موكب العريس، وكل النساء ينتظرن في بيت العروس، والكل يشاركون في نفقات الزواج بالنقوط، وفي رحلة العريس اليومية لمدة أسبوع في أول أيام زواجه يسير سيرة ومعه شباب القرية، وعندما تدنو أيام الولادة، النساء معاً كلهن يرفعن قلوبهم، ويصلين صلاة الماريا، يستدعون مريم العذراء لكي تقف في مساندة المرأة لحظة الولادة، لأن مريم عانت ما عانت في الولادة، وتمكنت في قوة شبابها وفي ولادتها المعجزية، وهزت جزع النخلة فأنزلت رطباً جنياً، وعندما يحمل العريس سيفه ويرشم به الصليب يكون هذا في اجتماع المهنئين له، وعندما يولد الطفل يسير موكب القرية إلى النور، لكي يغطس الطفل ويتطهر بماء النيل معمودية مقدسة تجعل النيل له أباً والقرية له أماً، وعندما يكتمل للمرأة بعد الولادة أربعون يوماً تذهب معها كل نساء القرية لكي تتطهر بالماء هناك، وعندما يرتب عش الزوجية يحمل شباب القرية كل الأثاثات، ويساهمون جميعاً في نفقات الزواج بالنقوط، القرية كلها تفرح معاً، وتحزن معاً وتتكافل معاً. الرحيل والترحيل: وليس هناك مأساة عند أهل حلفا من مأساة الرحيل، فلقد كان الرحيل ترحيلاً بمعنى أنهم لم يتركوا المكان بإرادتهم، لقد تركوه وكل قلبهم فيه، لقد عاشوا فيه أجمل أيام حياتهم، وإذا كانت امرأة لوط طلب منها ملاك الرب أن ترحل من سدوم وعمورة لكي تهرب من شرها وقرها وأثمها وخطاياها المشوهة الغريبة، فإن امرأة لوط رغم أنها نصحت أن لا تتطلع إلى الوراء، لكنها نظرت إلى الوراء من ورائه فصارت عمود ملح، كما يحكي التاسع عشر من سفر التكوين، فكم وكم يكون ألم الإنسان عندما يغادر أجمل مكان يحمل له أطيب الذكريات، لقد كان موكب الرحيل مزدحماً كأنه يوم الحشر، ساخناً كأن جهنم قد فتحت أبوابها، وكانت الدموع تملأ المآقي، ويعلو الصراخ والنحيب، حدائق النخيل تودع الأحباء الذين كانوا يجلسون تحت ظلها، والأطفال الذين كانوا يأكلون ثمارها، ويذهبون إليها في الصباح الكبير يجنون ما وقع من تمايلها ودلالها، وكان لابد لمدينة النخيل أن يودع أهلها النخيل الذي تركوه خلفهم، لكي تغمره الماء ويموت بدون وداع أهله. وعند الرحيل كانت كل قرية ترحل بمفردها، ولكن أهل القرى الأخرى، كانوا يحضرون ويشاركون ويبكون وينتحبون ويئنون، لأن المصير واحد، والترحيل واحد، بينما قليلون رفضوا الرحيل والترحيل، وظلوا في أماكنهم، ولم يكن مصيرهم أفضل فبعضهم قضى نخبه، وغمرته مياه السد العالي، وآخرون قرروا العيش في نفس المنطقة في مكان لم تغمره المياه، وكلهم أمل في أن تعود حلفا القديمة مرة ثانية، وأنا معهم سوف أظل داعياً ومجدداً الدعوة حتي تولد ولاية حلفا العتيقة على أيدي أبناء حلفا، والذين صاروا رموزاً وطنية، وإعلاماً أقتصادية، ونماذج كادحة مكافحة شقت في صخر الحياة لها طريقاً، ونالت من النجاح ما نالت، وحققت آمال كل السودان في أبنائه. لقد هاجر بعض شباب حلفا قبل تهجير حلفا، ولكنهم كانوا مضطرين لمساندة عائلاتهم في حلفا، حيث كانت الحياة في حلفا قاسية، ولكن هذا لم يجعل أهل حلفا يتركونها، ذهب شباب حلفا للعمل وكانوا يرسلون ما يغطي الإحتياجات، بل وما بين الجديد من البيوت، كان أمل الحلفاوي أن يبني له بيتاً في حلفا ويزينه أهل حلفا، بأطباق على شكل صليب يطرد الشيطان ويمنحه من الدخول في ملكوتهم الأرضي، لقد أضطروا أن يتركوا حلفا، وأن يهرولوا إلى قطار الرحيل، وأن يخضعوا لترتيبات الترحيل، وأعتقد أنه قد آن الأوان لكي يعوضوا عن تضحيتهم لأجل بناء السد العالي، والظروف كلها مواتية والحمد لله لمولد ولاية حلفا العتيقة، التي سوف تكون مدينة جميلة، ويكون فيها متحف قومي يحكي بالآثار وبالصور قصة حلفا القديمة التي غرقت في حلفا العتيقة التي ولدت.