أصبح الإعلام علماً تقام له الصروح التعليمية من معاهد وأكاديميات مختلفة متخصصة، وبالتالي أصبحت له شروطه وتقنياته الخاصة ومستلزماته، لقد أصبح الإعلام ثمرة يشارك في إنضاجها كثير من المعارف والعلوم وتوظف لها أرقى الخبرات، وصناعة من الصناعات الثقيلة التي لها خططها ونفقاتها، وقدمت بعض الدول الأمن الإعلامي على أنواع الأمن الأخرى، لقد كانت قيادات التعليم في حقبة الستينات بهذا الوطن واعية ومدركة عندما أنشئت أول كلية صحافة وإعلام متخصصة في الجامعة الإسلامية بأم درمان .الإعلام وظيفته اتفاقاً هو للترفيه والترويج في المجتمع بالإضافة إلى الأغراض الأخرى، ولكن هذه الوظيفة أو الوظائف تختلف من أمة لأخرى أو من دولة لأخرى تبعاً للأهداف والغايات، وأيضاً تختلف الوسائل من حيث الحداثة تقنية وأسلوباً واستخداماً.الإعلام في عالمنا المعاصر يوظف لكل غرض وفق رسالة محددة وهادفة وموقوتة لإيصال فكرة أو تشكيل عقل أو صناعة ذوق عام بزراعة اهتمامات معينة، وفق إستراتيجية تصنعها الدولة المعنية أو الجهة الأكثر سيطرة وهيمنة على وسائل الإعلام.. الإعلام اليوم يمتلك قوة وعوامل من تأثير وحفظ وتحكم، بحيث يقوم بإعداد الحدث وتصنيعه والتحضير له وبثه ومتابعته في الوقت نفسه. قوة اقتصاد الدولة، مهما بلغ تأثيره على موقف اقتصاد العالم يبقى التخلف في التعليم بكل مشتقاته من مسببات التخلف الاقتصادي في كل قطاعاته، وتخلفاً في القوة الإدارية وتبعاً له التخلف في السياسات الزراعية والصناعية وهلم جرا، لذا لايمكننا أن نتخيل تقدم هذه الدول في المجال الإعلامي، ورب قائل أو سائل: ماذا نقول في وسائل الإعلام الحديثة المنتشرة في عالمنا العربي، وتوظف لها الدول إمكانات.. هائلة أوَ يُعَد ذلك تخلفاً؟ نعم امتلكنا كل شئ واستجلبنا أحدث ما توصل إليه العلم إلا أن الشعوب لا زالت يخوض بعضها في مستنقع الجهل الفكري والعقدي، وبالتالي أصبح الاعلام كالنبت الذي لم يؤت أكله رغم استصلاح الأرض.. الإعلام الهادف في الدول النامية بتخلفها الإدراكي والسياسي لايتوقع له التقدم، لأنه ينقل ما يستعيره بنسب عالية، وجوهر إعلامها واحد أو متقارب، فاللهو غالب والهدم للقيم والأخلاق من خلال البرامج سائر واستهداف العقول الشابة كل ما يطرح، وارد، إنه دس للسم في الدسم.. وفي قلب عالمنا العربي هناك «طوق فضائي» موجَّه للتشويش على البرامج الهادفة، والتسويق للبرامج الهدامة خاصة في المنطقة الواقعة تحت طائلة البث الإسرائيلي الموجه المباشر.. وصدقوا حين قالوا لقد أفلحت الأطباق فيما عجزت عنه الحروب.لقد أفلحت بعض الدول في المنطقة العربية الإسلامية في التملُّص والتخلص من هيمنة الفكر والأسلوب والنهج البرامجي المستورد لعدم ارتباطه بمجتمعاتها ولا قضاياها السياسية والاجتماعية أو الروحية وصبت طاقاتها لبعض إعلام يعالج بجدية المشكلات التي تواجه الأمة، ولكن هذه القنوات لم تسلم من النقد الهدام وحاربتها الحكومات، بل إن بعضها أُرغم على إسكات صوته. للعملية الإعلامية أبعاد متعددة وخطيرة، فهي تبدأ بالتسلل ثم الاقتران فالتحكم والاحتواء ثم السيطرة والقبض التام على عقل الأمة وعواطفها واهتماماتها ليصير تشكيلها وفق الخطط المرسومة.. إن أخطر ما في عملية الاختراق إنها توهم الأمة المخترقة أنها تمتلك إرادتها وتصنع رأيها وتتخذ قرارها بنفسها دون أن تعي أنها تدور في الفلك المرسوم لها بأجهزة التحكم من بُعد ولا نطلق القول جزافاً فيمكننا التثبت بتتبع وفحص قنواتنا العربية والإسلامية بلا استثناء، فهي تقوم بتنفيذ مخططات الهدم للمجتمع، وقواعد بالوكالة المريحة جداً لقوى الصهيونية العالمية.. صحيح أن هناك قنوات أُسست على التقوى كما يقال، ولكن بثها معارض ومشوش في كثير من الأحيان، بل ولقد حاولوا التسلل إلى خارطتها البرامجية لخلخلتها وتفريغها من مضمونها التربوي ذي القيم، بل سعوا للحيلولة دون أن يتخطى دور الواجهات الدينية التفسيرات المعلومة أو اخبار السير المعروفة، دون الدخول في تفاصيلها ولا حتى الدروس المستفادة منها أو من المعارك والملاحم التي كانت في صدر الإسلام لأنها في اعتقادهم تنمي في نفوس الشباب فكر الجهاد وهو عندهم أصل الإرهاب.لقد لعب الإعلام الغربي دوراً كبيراً في ربط عقل ووجدان الأمم بثقافة المستعمر، وقوَّم الكيانات ورعاها وغذاها فكرياً وعقدياً، فكان الاحتواء والاجتذاب والتأثير، وقمة ذلك يتم بانتهاج سياسة إعلامية موجهة تجاه العرب وبلغة العرب وبأسلوب العرب.. لقد أجمل الباحث الأستاذ عاطف الجولاني الواقع والأهداف في الأحداث السياسية الكبيرة التي مرت بالمنطقة كأحداث سبتمبر، حيث أفرزت مشاعر بغض وكراهية إسلامية وعربية إزاءالسياسات الغربية والولايات المتحدة، بصفة خاصة الحرب الشاملة على ما يُسمى بالإرهاب في المنطقة زادت من شعور شعوب المنطقة بالاستهداف الغربي دون غيرها.. الغزو الأمريكي لأفغانستان ثم تدمير الصومال فالعراق والفوضى العارمة التي تخلقت عنها كيانات متنافرة.. كل هذه فاقمت من مشاعر الاحتقان في العالم العربي الإسلامي ضد السياسات الغربية والأمريكية بصفة خاصة، فكان لابد من وسيلة ما لكسر الطوق الذي شكَّله الشعور المعادي، فجاءت وسيلتهم في الإعلام الفضائي بحيث يكون طوق نجاة له وطوق إحكام لنا في العالم العربي، فضاء البث المفتوح على مصرعيه ليصل مباشرة للمواطن العربي وعقله ومخاطبته بلغته، ولو انتبهنا لعلمنا أن هناك تشجيعاً وترغيباً وترويجاً لافتتاح قنوات داخل الوطن العربي وبلغات غير عربية، تكريساً وتنفيذاً لمخططٍ آت.إن المؤسسات الإعلامية الغربية الموجهة للعالم العربي يتم دعمها بلا حدود من دول بعينها غربية، وهي تتولى الإشراف والإدارة لتحقيق الأهداف السياسية والاجتماعية والثقافية.. وقد أفصح أيضاً الكاتب عاطف الجولاني عن الأهداف المعلنة والمتمثلة في إتاحة الفرصة أمام المواطن العربي لما يحدث في العالم خاصة في الدولة المالكة للمؤسسة العربية، وهذا واقع تماماً.. تحقيق التواصل من أجل تحقيق أكبر تفاهم بين الحضارات والثقافات بديلاً عن العداء والمواجهة بين الحضارات، محاربة الاستبداد السياسي ودعم الديمقرطية، تقديم وجهات نظر الدولة الداعمة للمؤسسة الإعلامية إزاء القضايا المختلفة وشرح سياساتها وتوضيح موقفها. أما الأهداف غير المعلنة، وفي الغالب هي الأهداف الحقيقية وراء إطلاق المؤسسة الإعلامية الموجهة، وتسعى الدول المالكة للمؤسسة الإعلامية الناطقة بالعربية لتحقيق الآتي: تجميل وتحسين صورة الدولة الداعمة والدفاع عن سياساتها وتسويق دوافعها- التأثير في السياسات الخارجية للدول العربية بما يتفق مع رغبات الدول الممولة من خلال ضغوط إعلامية- تقرير النفوذ السياسي في المنطقة العربية، ولنا الأمثلة في قنوات البث الألماني الصيني الإنجليزي.إن الهجمة الإعلامية الغربية في غاياتها إنما تخدم الأهداف الصهيونية المسيطرة على الإعلام في العالم، وهي لاتستثني الرجال أو النساء، وتركيزها الأكبر ومحور الاستحواذ والاحتواء والتدمير هم الأطفال رجال الغد والمستقبل، وما القنوات التي تبث برامج الأطفال الموجهة بأسلوب معين، ومصورة لكل من هو ديني على أنه إرهابي.. بل وتصميم بعض الألعاب التي يتقاتل فيها طرفان، الإرهاب أحدهما، وذلك بقصد ترسيخ هذه المعاني في جيل الغد لينمو وقد تشكَّلت في عقليته ماهية الإرهاب وفاعليته وأين وكيف ومتى يمكن أن يثور، وأيضاً كيف يُطمر.. ورغم انتباه بعض العلماء والاقتصاديين العرب في هذا المجال وولوجهم ميدان المنازلة المضادة لهذه الأفكار، إلا أن الأمر يحتاج لجهود الدول مجتمعة خاصة مع رياح التغيير التي بدأت تهب على العقلية العربية الشبابية فكراً ووعياً ومنهجاً.و على هذا الإعلام- ليكون قوياً وفاعلاً- يجب أن يرتبط بالعلم، لأن العقل المتعلم مناط التكليف، ولأن العقول المتعلقة لديها الحصانة من كل وافد هدام، ولديها المقدرة على استيعاب الجديد المفيد وتوظيفه.. ولكن يبقى السؤال، ونحن في عالم اليوم الإعلام يقود التغيير بكل واجهاته، الإعلام يغذي الحروب بالمعلومات، الإعلام يحلل النتائج، بل ويصدر الأحكام أحياناً على نتائج المعارك في الهواء أو على الأرض.. هل الاعلام حديثاً آلة حربية تم تحديث وسائلها وتفصيلها؟.. وبلغة الأساطير هل الإعلام آلة حرب جديدة لايعرف أين ومتى وكيف تبدأ أو ستنتهي؟ وما قوتها التدميرية؟ هل هي أسطورة بلا حدود كما الآن؟ أم هي واقعية لها حدود تدمير موضعي كما الان أيضاً.. مع انتشار خفي ذي أثر سالب موجب متنامي ولا منتهي.. ولنا عودة.