انصرمت الأعوام.. منذ أن غاب عنا.. شجن الأغنية السودانية الأستاذ هاشم ميرغني... تعاودنا هذه الأيام ذكرى رحيله... أسبوع تمام وأنا أبحث عن حروف لأنسجها حتى تواسيني وتكفكف دمع اللوعة في الأحداق..! أبحث عن أبعاد تلك القامة السامقة التي يعجز بصرك المحدود عن استيعاب كل مواطن الدهشة فيها..! انتابني فيض من شجن فآثرت أن أزيده التياعاً، فأنصت لنغمة تفرح القلب الحزين.. «لأني خايف من فراقو لمن يحصل ببقى.. كيف زي ورد في عز نداهو خوفو بكره يزورو صيف..!». وعندما أصبح الخوف واقعاً غاب الربيع بازدهاء ألوانه عنا.. وهاجر بعيداً ولم يترك لنا إلا اصفرار الشتاء الحزين.. مر الصقيع.. ووحشة البيادر..! هاجر الطير المغرد في موسم ترحاله بعدما استفحلت المرارات داء عضال.. وطّنته الدنيا فينا.. فسكب على جراحاتنا آبار حنان تضمد لهفة الحرمان حتى وهو بعيد.. فالفتى الأصيل لا تثنيه المسافات ولا يحتاج لخطوط طيران أو نقطة تفتيش إلا لتفضح «تهريبه للروعة» بكميات تجارية دون أن يأخذ تصريحاً بذلك..! لقد ارتحل «هاشم» عنا فقط بجسده المعطون نغماً بعدما استنزفت آهات قلبه نبض إحساسه كله.. فأصابته جلطة إبداعية أبى جسده بعدها أن يحتمل كل هذا الكم من الرحيق! البعض حين يرحل يطويه ويعلق عليه غبار النسيان.. وآخرون يظلون هم الذاكرة حاضرة.. نشطة.. خالدة... فالروعة والصدق معانٍ يفتقدها الإحساس.. وعندما نحسها نتمسك بها ونرددها كلما احتاجت الدواخل لشيء ما يحرك فيها السكون ويستنطق الحب ويعيد الذكرى. هاشم ميرغني يا وجعاً تحكر في الحنايا ويا بحراً حوى كل السجايا، وردنا صفوك ماءً عذباً فراتاً.. وارتوينا من طول ارتحالك كدراً أجاجاً..! قلبي مالو اليوم من جسمي فر وراح.. ليتها دامت الأفراح.. لكن.. تأبى إلا أن تنتقي الجياد.. لأنها تعلم أنهم لا يحتاجون للوجود الحسي لكي يكونوا أجساماً شفيفة توائم أرواحنا وتعيش في كل خلايانا في الوجود.. وحتى العدم...!! أيها الساكن فينا ترفق فإن طيفك يأبى أن يرحل.. دعه يعلم الأجيال كيف يكون الخلود...!