يقول أصحاب الخبرة والنظر الإستراتيجي: «من السهل أن تبدأ الحرب ولكن من الصعب أن تعرف متى أو كيف تنتهي»، ولسنا هنا معنيين بالجدل الدائر بين شريكي نيفاشا -المؤتمر الوطني والحركة الشعبية- حول مسؤولية بدء الاشتباكات في جنوب كردفان - في كادوقلي وما حولها خلال الأسبوع الماضي- فذلك جدلٌ تُفتي فيه التحقيقات العسكرية والمحاكم والمجالس واللجان المشتركة التي تضم الشريكين قبل التاسع من يوليو -موعد الانفصال- أو بعده. ولكننا معنيين بالدرجة الأولى بالمطالبة بوقف الحرب غض النظر عن الباديء أو الدوافع، لأن استمرار الحرب واتّساع رقعتها بالتداعي شمالاً أو جنوباً يعني القضاء على أهم إنجازات اتفاقية نيفاشا، وهو وقف الحرب والسلام، الذي بدونه سيدفع الجميع - شمالاً وجنوباً- تكاليف باهظة تفوق قدرة الدولتين والوطن المنقسم على مواجهتها أو تحمل تبعاتها. فالمشهد العام في جنوب كردفان ينبيء بأن الانزلاق إلى حرب شاملة ممكن، ربما ليس برغبة حقيقية لدى أي طرف من طرفي نيفاشا المتشاكسين طوال الفترة الانتقالية، لكن مثل هذا الانزلاق ليس بالضرورة أن يكون فعلاً إرادياً وبقرار مسبق، ولكن بتداعيات الأحداث وبردود الأفعال اللحظية التي لا تقيم وزناً للحسابات الإستراتيجية والرؤى العقلانية. المشهد في جنوب كردفان وبحسب ما هو منشور ومتناقل ومتداول يقول الآتي: ü كمين دبّرته عناصر محسوبة على الحركة الشعبية الشهر الماضي أوقع قتلى وجرحى في سرية للقوات المسلحة منسحبة من حاضرة أبيي في رفقة قوات الأممالمتحدة، ورد فعل شامل بالأسلحة الثقيلة والطيران الحربي أبعد قوات الحركة وإدارة أبيي المحلولة إلى جنوب بحر العرب وانتشار القوات المسلحة في المنطقة والاستيلاء عليها. ü نزوح شامل لدينكا-أنقوك من المنطقة جنوباً، قامت منظمة الهجرة الدولية بتسجيل 83.500 منهم فروا في أعقاب اندلاع أعمال العنف في 21 مايو الماضي، من بين نحو 160 ألف حسب التقدير الإجمالي لعدد النازحين، وهم الآن في حاجة كبيرة للإيواء والغذاء، ما يعني إلقاء عبء إضافي على المجتمع الدولي، الذي كان يوفر لهم الغذاء والدواء حتى قبل النزوح. وحذّرت جومبي أوماري المتحدثة باسم المنظمة في تصريح لإذاعة الأممالمتحدة من تزايد حركة النزوح وتنامي الاحتياجات مع حلول فصل الخريف. ü مجلس الأمن طلب من الحكومة السودانية سحب قواتها من المنطقة حتى يتمكن دينكا أبيي من العودة، بينما اشترطت الحكومة إنجاز تسوية نهائية للأزمة قبل سحب قواتها. وأمس الأول أجل مجلس الأمن جلسته الخاصة بالسودان لمناقشة الأوضاع في أبيي إلى وقت لاحق، لإعطاء فرصة لمزيد من المساعي التي يبذلها الاتحاد الأفريقي لاحتواء الموقف من خلال جهود الرئيس ثابو مبيكي الرامية للجمع بين الرئيس عمر البشير ورئيس حكومة الجنوب ونائبه الأول سلفا كير. وتم التأجيل بناء على طلب مندوب السودان لدى الأممالمتحدة. ü المتحدث باسم الجيش الشعبي العقيد فيليب أقويرو اتّهم القوات المسلحة - بحسب «الصحافة» أمس- بشن هجمات جوية متكررة على مواقع تابعة له في ولاية الوحدة وزعم بشن هجمات جوية متكررة على مواقع تابعة له في ولاية الوحدة وزعم أن الغرض منها هو السيطرة على حقول النفط بالولاية. وأعلن أقويرو أن «الجيش الشعبي في حالة تأهب قصوى ويعزز مواقعه الدفاعية متوجساً من قيام الشمال باجتياح للسيطرة على الحقول النفطية في الجنوب». ü في واشنطن قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ السيناتور جون كيري (الخميس) إن الوضع في السودان، وخصوصاً في جنوب كردفان، الذي يشهد معارك منذ عدة أيام «خطير ولكنه ليس ميئوس منه»، وأضاف في بيان أصدره «إن احتلال أبيي من قبل قوات الحكومة السودانية ونزوح عشرات الآلاف من السكان يشكل خطراً على الانتقال السلمي لاستقلال جنوب السودان الشهر المقبل الذي يأمل الجميع أن يتم بسلاسة، وإنه يتوجب على الطرفين إيجاد حل لمشكلة أبيي ولمصادر التوتر الأخرى بينهما بمساعدة الأسرة الدولية». ü والي جنوب كردفان المنتخب أحمد هارون أعلن، في تصريحات للإذاعة السودانية، أنه لا يرى في الأفق مؤشرات للحوار، مضيفاً أن من يتحمل المسؤولية عن الذي جرى في الولاية بالدرجة الأولى «المتمرد ياسر عرمان ومن معه من اليساريين» وأردف أن عبد العزيز الحلو - نائبه السابق- أصبح «الآن متمرداً أيضاً وخارجاً على القانون» وسنتعامل معه وفقاً للقانون و«سيُحاسب حساباً عسيراً عن ما حدث لأنّه تسبب في موت مواطنين وعسكريين وتدمير منشآت». ü من جانبه، جدد رئيس حكومة الجنوب الفريق سلفا كير، في اجتماع لحكومته الخميس عدم رغبة الجنوب في العودة للحرب بعد اتّفاقية السلام الشامل، وأكد عزمهم على حل القضايا العالقة بالحوار، داعياً المواطنين للتمسّك بالسلام. ü ثابو امبيكي، رئيس اللجنة العليا للاتحاد الأفريقي - لجنة الحكماء- التقى في جوبا الفريق سلفا كير، وقال إنه بحث معه الأوضاع في أبيي وجنوب كردفان وأشار الى أهمية أن يعود السلام الى تلك المنطقة، وأن مشاوراته هدفت الى استئناف الحوار بين الجانبين بالشمال والجنوب مع مشاركة القوى السياسية في الاتفاقات التي سيتم التوصل إليها. ü النّزوح والتهجير لم يقتصر على دينكا أبيي، بل امتد إلى جنوب كردفان بأسرها، حيث ذكر الناطق باسم بعثة الأممالمتحدة (يونميس) أن ما يزيد على 10 آلاف نازح تجمعوا حول مقر البعثة بينما تدفق آلاف آخرون على الأبيض وعبرت مئات العربات المحملة بالفارين الى الخرطوم. هذه هي باختصار صورة المشهد في جنوب كردفان وما حولها جراء الحرب التي بدأت من هناك، ولا أحد يعلم على وجه اليقين متى تقف والى أين وكيف ستنتهي. لكن علينا جميعاً أن نتذكر، وهذا قد يعطينا بعض الطمأنينة والأمل -كما عبر عن ذلك السيناتور كيري الذي قال إن الوضع خطير ولكنه غير ميئوس منه- علينا أن نتذكر أن الدولة في الشمال التي ستفقد جل عائداتها من النفط بعد الانفصال والتي يعاني مواطنوها من الغلاء وشظف العيش وتشكو من التردي الاقتصادي في كل قطاعات الإنتاج ليست على استعداد لخوض حرب شاملة لن تعني سوى محاولة الانتحار، وأن الدولة الوليدة في الجنوب التي تنتظر الاحتفال برفع علمها في التاسع من يوليو المقبل لن تقدم على حرب في مواجهة الشمال، لأن ذلك عمل لن يقدم عليه سوى مجنون، لأن أولويات الدولة الجديدة بعد الاعتراف الإقليمي والدولي هي بناء دولة لا تملك الآن من مواصفات الدولة سوى الأرض والشعب وتحتاج لأن تبدأ من الصفر. وفوق هذا وذاك فإن شمال السودان وجنوبه كلاهما بحاجة ماسة لبعضهما البعض، وأي استمرار للنزاع وإدامة للتوتر يعني خلق حالة عداء سيدفع ثمنها الطرفان في عدم الاستقرار والتدهور الأمني وخنق فرص الإنتاج والتنمية وأكثر من ذلك انعدام الطمأنينة العامة، وكل ذلك كفيل بتهديد الحكومتين القائمتين في الشمال والجنوب، خصوصاً في ضوء متابعة المجتمع الدولي لأحوال السودان التي لن يسمح لها «بتهديد السلم والأمن الدوليين».. نعم يجب وقف الحرب في جنوب كردفان وأبيي الآن وقبل فوات الأوان.