انفضَّ ملتقى المبعوثين الدوليين في الفاشر وانتهى إلى لا شيء تقريباً، خصوصاً في غياب المبعوثين الأمريكي والبريطاني، والذي لم يقدم له مسؤول ملف دارفور د. غازي صلاح الدين تفسيراً سوى اللجوء إلى لغة الدبلوماسية الغامضة التي لا تقول ما يجب أن يقال، ركوناً إلى الحكمة القديمة«ليس كل ما يُعرف يقال»، فرد على سؤال الصحافيين عن سر غياب سكوت غرايشن ومايكل أونيل بالقول: لا استطيع أن أعلق على ذلك، وان هذا شأن يخصهما، وهم الذين اتفقوا وتوافقوا على عقد الاجتماع، ونحن عبرنا عن استعدادنا لأي إسهامات نزيهة ومخلصة في قضية دارفور(الرأي العام-الثلاثاء 6 يوليو). انصب حديث المبعوثين الدوليين والمسؤولين السودانيين الذين حضروا الملتقى على مسألتين رئيسيتين، أولاهما، وربما أهمهما هي الضغط على حركتي العدل والمساواة بقيادة خليل إبراهيم و حركة تحرير السودان جناح عبد الواحد محمد نور، من أجل التوجه إلى الدوحة واللحاق بمائدة المفاوضات المنعقدة هناك، والثانية و«الثانوية» هي الإسهام ودعم برامج التنمية وإعادة الإعمار ومواصلة العون الإنساني في دارفور. ولنبدأ بالمسألة الأولى والأهم، وهي الضغط على الحركات المسلحة الرافضة للانضمام لمنبر الدوحة بشروطه الحالية ووسطائه الحاليين، وهل يمكن لمثل هذا الضغط أن ينتج أية خطوات إيجابية تعزز فرص السلام في دارفور كما ترغب الحكومة. والإجابة -للأسف- لا، لأن السلام أصلاً لا يتأتى عبر الضغوط. بل هو عادة يأتي كمحصلة لقناعات تتوفر للأطراف بضرورته وجدواه. وحتى لو أتى نتيجة للضغوط والحصار، فغالباً ما يكون سلاماً هشاً ريثما ينهار لدى أول سانحة تمرد أو لتبدل في الأوضاع التي فرضته، ليصبح بذلك فعلاً «تكتيكياً» وليس عملاً «إستراتيجياً» يستجيب لجذور الأزمة ومسبباتها. وإذا ما اقتربنا من حقائق الواقع على الأرض في دارفور، نجد أن «الوضع الأمني بدارفور لا يزال متأرجحاً» على حد وصف رئيس بعثة اليوناميد إبراهيم قمباري، في خطابه أمام ملتقى المبعوثين، وعزا ذلك ل«المواجهات الأخيرة بين القوات الحكومية ومقاتلي حركة العدل والمساواة بمناطق متفرقة من دارفور» (الصحافة-6 يوليو). ونجد أن جُلَّ النازحين لا يزالون قابعين في معسكراتهم جراء مخاوفهم من اشتعال الحرب على نطاق واسع مرة أخرى، وانعدام الأمن الشامل في ضوء «حرب العصابات» التي لم تضع أوزارها بعد، والتي تطال نيرانها وكمائنها مسؤولين حكوميين وقوافل تجارية وحتى قوات حفظ السلام، ما دعا قمباري إلى القول «إن اليوناميد هي في واقع الحال بعثة لحفظ السلام في وقت لا يتوفر فيه سلام على الأرض، ولذلك نحن ندعم فرص التسوية السلمية».ونجد أنه على المستوى السياسي أن عملية السلام وفُرصها لازالت ضئيلة ومتعثرة، فمنبر الدوحة لم يستطع حتى الآن جذب القوى الرئيسية في ميدان الحرب في دارفور، خصوصاً حركتي العدل والمساواة وحركة تحرير السودان جناح عبد الواحد، اللتين تتهمان الحكومة بأنها تفاوض مجموعة من الناس أو الحركات التي لا وجود لها على الأرض.في إشارة «لحركة التحرير والعدالة» التي تشكلت في الدوحة بعد توحيد بعض المقاتلين السابقين والسياسيين بجهود بذلتها الحكومة والوسطاء القطريون والدوليون، ما دفع حركة خليل للالتحاق بموقف حركة التحرير بقيادة عبد الواحد الرافض لمنبر الدوحة من حيث المبدأ. وإذا ما عدنا لملتقى المبعوثين فإننا سنجد أن غياب الولاياتالمتحدة وبريطانيا، يُعدُّ مؤشراً إلى «موقف غير معلن» من جدوى الضغط على الحركات المسلحة، وأخطر من ذلك قد ينم عن عدم استعداد واشنطن ولندن للمساهمة في تيسير وتسهيل الوصول إلى حل لأزمة دارفور في الشهور الخمسة المتبقية على إجراء الاستفتاء على تقرير المصير في جنوب السودان، لا سيما بعد الانحياز المعلن من جانب الولاياتالمتحدة ومن ورائها بريطانيا لخيار انفصال الجنوب عندما يجري ذلك الاستفاء، واستمرار الأزمة والحرب في دارفور لا شك تدخل ضمن محفزات الانفصال الذي تبنته وتدعو له الدولتان، أو ربما رأت فيه «كرتاً» إضافياً للضغط على الخرطوم حتى تأتي طائعة مختارة لخيار الانفصال وتتخلى عن دعوتها وجهودها المعلنة لصالح الوحدة. فواشنطن وبريطانيا، إذن، لا تريدان تقديم «مكافأة مسبقة» للحكومة السودانية بحل أزمة دارفور الآن، وهذا هو التفسير الأرجح لغياب المبعوثين غرايشن وأونيل. كنا وما زلنا نقول، إن حل أزمة دارفور يكمن أولاً وأخيراً في توفر الإرادة السياسية السودانية، إرادة تخاطب جذور الأزمة، التي هي جماع مطالب أهل دارفور، وهي مطالب غير مستحيلة، وأعلنتها الفصائل الدارفورية مراراً وتكراراً، وتتمثل في الحل الشامل الذي يوفر الأمن والسلام لأهل الإقليم ويوفر التنمية والخدمات الضرورية، ويوفر الاستجابة لمطلب «الإقليم الواحد» في إطار نظام فيدرالي، والتعويضات الفردية والجماعية والاشتراك في تسيير دفة الحكم في البلاد على قدم المساواة مع الأقاليم الأخرى، وكل ذلك ممكن وميسور ويمكن أن يتم «بأيدي سودانية» عبر إشراك كل القوى السياسية في مؤتمر يعقد في الفاشر أو نيالا أو الخرطوم يلتقي فيه السودانيون على كلمة سواء، ويقتصر فيه دور المجتمع الدولي على تقديم الدعم والمساندة المعنوية والمادية على ما يتفق عليه أهل السودان بإراداتهم الحرة. عندها، وعندها فقط ستكتشف الحكومة أن الحل بين يديها وتحت أقدامها وذهبت تفتش عنه في المرافئ والعواصم البعيدة. ومع ذلك، أسائل نفسي -صادقاً- هل تلك أيضاً «أُمنية» فات أوانها كما «فات أوان الوحدة الجاذبة» على حد قول الفريق سلفا كير يوم حفل تنصيبه في باحة مقبرة جون قرنق؟!.