سنحتفل دون شك مع إخوتنا الجنوبيين بانفصالهم عن الشمال والإعلان عن استقلالهم المرتب له في التاسع من يوليو المقبل بعد ثلاثة أسابيع تقريباً، وسوف يخرج الآلاف في الشمال والجنوب إلى الشوارع ابتهاجاً بهذه المناسبة السعيدة للطرفين، خاصة بعد أن نجحت الحركة الشعبية في جعل الوحدة منفرة من خلال ممارساتها السياسية غير المسؤولة وغير الراشدة ليس في مواجهة المؤتمر الوطني وحده، بل حتى في مواجهة خصومها داخل المحيط الجنوبي. الآن وبعد أن أخرجت الحركة الشعبية الجنوب طوعاً أو كرهاً- لا يهم- من إطار الدولة الواحدة، فإنه لن يكون بمقدورها أن تعود به إلى ذات الإطار مرة أخرى، لأن القرار هنا سيكون هو قرار الشماليين.. ومع ذلك.. فإننا نخشى ما نخشى (تفريغ) الجنوب من الجنوبيين قصداً أو دون قصد بسبب المشكلات المنتظرة والتي أخذت تطل برأسها منذ الآن، مثل المواجهات القبلية المسلحة وتصفية الخصوم وعدم الالتزام بمسؤوليات الحكم التي تقضي بأن يقف الحاكم على أمر المحكوم تماماً وأن يوفر له الخدمات الأساسية ابتداءً من صحة البيئة مروراً بالصحة العامة والتعليم والطرق وتوفير فرص العمل والسلع والمواد التموينية اللازمة والضرورية. نعم.. نخشى أن يفر أبناء الجنوب إلى الشمال، وأن يعود الذين تم تهجيرهم قسراً إلى حيث عملوا ونشأوا وتعلموا وألفوا وآلفوا الناس وعاشوا معهم وعايشوهم.. وقد شهدنا الآن المئات يعودون من جديد إلى الشمال هروباً من جحيم حكم الحركة الشعبية، التي لا مكان في الجنوب الجديد لمن لم يكن عضواً فاعلاً في جيشها ذي التركيبة القبلية أو في تنظيمها السياسي القائم على ذات التركيبة. الحركة الشعبية ستدخل بالجنوب إلى الاستقلال التام عن الشمال (العنصري) (البغيض) كما يقول قادتها، لكن ذات الباب الذي يقود إلى الاستقلال المنشود يقود أيضاً إلى حقول ألغام ظاهرة وخفية، وقد كشفت منظمة العون النرويجية عن وجود أكثر من ثلاثين ألف قطعة سلاح وثمانية آلاف قنبلة ومادة متفجرة في مناطق مختلفة بولاية الوحدة- وحدها- وقال جون ساربو مدير المنظمة في الجنوب إن ولاية الوحدة تعد واحدة من أكثر الولايات التي ينتشر بها السلاح والألغام. وبالأمس فقط أعلنت الأممالمتحدة عن حاجتها لمائتي مليون دولار أمريكي في الوقت الحالي للتعامل مع الأوضاع الإنسانية في جنوب السودان، وقالت مسؤولة الإغاثة التابعة للأمم المتحدة ليزا جراند إن ما لا يقل عن نصف مليون مواطن جنوبي الآن ينتقلون من مناطقهم في جنوب السودان بينهم أكثر من ثلاثمائة ألف عادوا قبل الاستقلال وأكثر من مائتي ألف فروا من العنف. الألغام التي تواجه الدولة الوليدة الجديدة لن تكون ما أشرنا إليه فقط، لأن النزاعات حول أبيي (الشمالية) ستزعزع أمن الدولة الجديدة، وحشر حكومة الجنوب أنفها في الشأن الشمالي مثلما يحدث الآن في جنوب كردفان سيكون من أصعب ما تواجه به الحركة الشعبية ميلاد سودانها (الجديد) الذي تحلم به، ووجود أكثر من ثلاثين ألف جندي وصف وضابط شمالي في جيش الحركة من أبناء جنوب كردفان (النوبة) ومن أبناء النيل الأزرق سيقف حجر عثرة أمام اعتراف الشمال بالدولة الجديدة، خاصة وأن وزارة العدل الاتحادية قامت بالأمس بتسريح كل الجنوبيين العاملين بالدولة وحددت استحقاقاتهم المالية التي تجاوزت الستين مليار جنيه، بينما الحركة الشعبية تريد الاحتفاظ بأكثر من ثلاثين ألف من العساكر المدربين ليكونوا خميرة عكننة تهدد بها الشمال وقتما تريد. أما أكبر الألغام التي ستواجه الحركة الشعبية والدولة الجديدة الوليدة فستكون موقف أبناء الشمال من بقايا الحركة وأتباعها في الشمال الذين نحسب أنه لن يقبل بهم أحد بعد التاسع من يوليو المقبل.