هناك كثير من الرؤساء جلسوا على كراسي من ذهب.. ولكنهم ماتوا فقراء لأنهم أدركوا منذ اليوم الأول أن هذه الكراسي مملوكة للدولة.. دورهم فيها أن يؤدوا واجباً قومياً ووطنياً كخدام للشعب وفق شروط حددها القانون ورتبتها اللوائح.. ولذلك أدركوا منذ اللحظة الأولى حدودهم وحدود السلطة والمال العام.. ولدينا منهم نماذج بلغ بهم الحرص أنهم لا يتناولون حتى ولا إفطارهم على حساب دافعي الضرائب.. بل يأتي به السائق من منازلهم ويكون فيه توسعة عليهم وعلى غيرهم من العاملين معهم والذين يخدمونهم.. وبعضهم يريح نفسه ويريح الناس ويستريح فيتناول إفطاره في منزله منذ الصباح الباكر وتجهز له الأسرة تيرمس الشاي والقهوة أو أي نوع من الفاكهة أوصى به الأطباء لظروف خاصة به.. ومن هؤلاء الزعيم إسماعيل الأزهري رئيس أول حكومة وطنية.. الذي كان يختم يومه بأن يتناول سائقه والياوران الذي يرافقه طعام الغداء في منزله، وكذلك أفراد الحراسة المكلفين بحراسة المنزل. أما الأميرلاي عبد الله بك خليل.. فكان لا يتناول أي شيء في مكتبه، بل كانت مائدة الغداء في منزله مفتوحة للزوار والجيران، بل وعابري السبيل الذين يعرفون جيداً موعد هذه الوجبة التي تقدم كل يوم للجميع في ديوان الزعيم الراحل، إلى جانب بعض طلاب العلم من أبناء المعارف والأعيان الذين يدرسون ويقيمون بمنزل الزعيم البيك، واتضح بعد وفاته أن هناك عدداً من الأسر الفقيرة والأرامل والأيتام يعتمدون في حياتهم على المال الذي يقدمه البيك في خفاء لا يدركه حتى أقرب الناس إليه.. ومات البيك فقيراً مديوناً تماماً كالزعيم إسماعيل الأزهري الذي مات مثقلاً بديون ما تبقى من رهونات منزله إلى أن تصدى لذلك زعيم فقير آخر هو المشير جعفر نميري الذي مات وهو لا يملك شبر أرض واحد باسمه في السودان.. شأنه شأن سلفه الفريق عبود الذي لولا تكاتف بعض أصدقائه بعد تقاعده لما تمكن من بناء منزله. أما رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي.. فقد علمت أنه كان يكون لجنة مهمتها استلام ومراجعة النثرية المخصصة للسيد رئيس الوزراء وإعادتها إلى الخزينة العامة بعد نهاية كل رحلة.. فقد تعود كلما يعود من سفرية أن يعيد هذه المخصصات إلى الخزينة العامة.. وأذكر مرة في العام 1986 بعد عودته من زيارته للقاهرة وكان رئيس الوزراء آنذاك السيد عاطف صدقي.. أن أفادني الزميل العزيز أمد الله في أيامه.. أن النثرية خاصته عادت كاملة عدا مائة دولار فقط خصصت كحافز للخدم والسعاة في قصر الطاهرة حيث نزل السيد الإمام.. وعلمت فيما بعد أنه تعود على التبرع براتبه الشهري. أما الغني الفقير كقصيدته التي رثى بها الإمام عبد الرحمن، فقد كان العبقري المحجوب الذي ظل بيته مفتوحاً على مدار الساعة للأدباء والصحفيين والشعراء ورجال السياسة.. وعندما مات لم يجدوا في حسابه جنيهاً واحداً.