عندما كانت المفاوضات تجري في مشاكوس بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، أصر وفد الحكومة المفاوض على تمسكه بالشريعة الإسلامية كمرجعية للحكم، والحركة الشعبية كانت تطرح برنامج الحكم العلماني، واذكر أن رئيس الحركة الشعبية الراحل جون قرنق دي مبيور أجرى اتصالاً مع رئيس الحركة الحالي سلفاكير ميارديت وشدد عليه بضرورة أن يتمسك بحق تقرير المصير لشعب الجنوب، ومن هذه اللحظة وضع الجنوبيون الانفصال نصب أعينهم وعملوا على تحقيقه على أرض الواقع. كان ذلك نص ما قاله القيادي الجنوبي البارز اللواء جوزيف لاقو في حواره مع(الأحداث) الذي نشرته بعددها ليوم أمس، وكان أكثر دقة وتحديداً في الرد على سؤال الصحيفة له بعد قوله هذا: إذا كان قرنق على قيد الحياة، هل كانت ستتغير الأوضاع الحالية؟.. فأجاب لاقو(كانت ستكون على ما هي عليه ولن يتغير شيء). ورغم أن الأموات لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، إلا أن ما قاله لاقو في حق قرنق يستحق الدراسة والمراجعة والتدقيق، فالاعتقاد الذي كان سائداً لدى الجميع في الشمال على وجه الخصوص، هو أن قرنق كان وحدوياً وبرنامجه هو تحقيق وحدة السودان على أسس جديدة حتى أن كثيراً من القوى السياسية المعارضة احتفت بقدومه إلى البلاد في التاسع من يوليو 2005 ونظرت إليه باعتباره سيكون(المخلص) من حكم المؤتمر الوطني، ويخرج بالبلاد من ضيق الإنقاذ إلى رحاب الديمقراطية والحرية في(سودان جديد) حسب ما ترى هذه القوى. بل إن إحدى أقوى النظريات المفسرة لحادثة تحطم طائرة قرنق ومصرعه تقول إن الجهة التي دبرت هذا الحادث عن عمد كان دافعها الأول والأساسي هو التخلص من الرجل بسبب اتجاهاته الوحدوية التي بدأت تقوى وتزداد لديه بعد أن رأى تلك الحشود الغفيرة التي احتشدت لاستقباله في المطار وفي الساحة الخضراء ولم تكن يومها هذه الحشود قاصرة فقط على الجنوبيين وحدهم، وإنما كانت تضم أطيافاً من كل الجهات السودانية الأخرى. ولكن حينما يشهد بغير ذلك رجل مثل جوزيف لاقو، فإن الأمر يصبح جديراً بالبحث والتنقيب، فهو قد قذف بحجر كبير في هذه المياه التي ركدت لمدة ست سنوات وبكى فيها الباكون والمتباكون الرجل، وذرفوا عليه دموعاً ثخينة وزفروا بزفرات حرّى وقالوا إن وحدة السودان ماتت يوم مات قرنق وقبرت معه إلى الأبد. أنا شخصياً كنت قد بدأت تصديق فرضية وحدوية قرنق بعد وصوله السودان.. ورغم أنه لم يمضِ عليه في منصبه نائباً أول للرئيس سوى ثلاثة أسابيع فقط، إلا أنه كان خلالها يتحدث باستمرار عن وحدة السودان، ومما كان يعضد هذا الاتجاه لديّ أن قرنق كان صاحب كاريزما ورجل دولة وسياسياً تطول قامته لتتجاوز حدود الجنوب ويتطاول طموحه ليشمل السودان كله، هكذا كانت تقول معظم القراءات والتحليلات لسلوكه السياسي والتنفيذي في تلك الفترة القصيرة جداً التي قضاها في السلطة. ولا نشك في صدقية ما قاله جوزيف لاقو، فقد كان قريباً من قرنق ومن مطابخ القرار ودوائر التفكير والتخطيط داخل الحركة الشعبية، وكان شاهداً على كل مراحل التفاوض في مشاكوس ونيفاشا ونربأ به أن يكذب على رجل رحل ولا يستطيع رد الإدعاءات في حقه، و لكن لا نستطيع تأكيد حديث لاقو رغم أن إصراره على تضمين حق تقرير المصير يعتبر دليلاً لا يستهان به على التوجه الانفصالي لقرنق، وفي نفس الوقت لا نستطيع نفيه لأنه صادر من شاهد شاف كل حاجة وشارك في كل حاجة، فقط ما نستطيع تأكيده بشكل قاطع هو أن دنيا السياسة ليس فيها مستحيل ولا تعرف الثبات في المبدأ ودوام الحال فيها من المحال، وكلام الليل في السياسة يمحوه النهار. ويبقى أن حديث لاقو قد أراح كل الذين صدقوه من الذين ذهبت أنفسهم حسرات على ضياع(وحدة السودان) برحيل جون قرنق وغيابه الأبدي عن الساحة السياسية، وأن يكفكفوا دموعهم ولا يريقوها على رجل كان همه فصل الجنوب والتربع على عرش الحكم فيه. وللذين يرون في حديثه الآن محاولة للضرب على قرنق وهو ميت يعتبرون أنه يريد إضفاء مشروعية معنوية على الدولة المرتقبة في الجنوب التي تبقى لميلادها تسعة أيام فقط، بتأكيد أن الأب الروحي للحركة الشعبية كان يهدف ويعمل لانفصال الجنوب وهو نوع من الدعاية يأتي في إطار التعبئة السياسية والاستنفار الذي تقوم به حكومة الجنوب منذ فترة، تدعيماً لمشروعها لبناء دولتها الجديدة.