صاحب الحوليات زهير بن أبي سلمى قال في داحس والغبراء: (وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم* وما هو عنها بالحديث المرجّم).. وأنا لا أعلم أحداً من أهل السودان يجهل قسوة الحرب وتداعياتها الإنسانية المريرة، ولا أعلم حكيماً يصر على هذه اللعينة رغم علمه بما ذكرنا، ولو بدعوى الكرامة والعزة الخ... فسوء الحرب ونتائجها أشد ضرراً من إهدار هاتيك العزة، لأننا وكما نحرص عليها جميعاً، فإننا نخسرها جميعاً أيضاً ذات حرب. أقول ما أقول مستغرباً الغضبة المضرية التي أخذت بأنفس الناس جراء توقيع اتفاق نافع - عقار في أديس الاسبوع الماضي. فماذا تريدون؟ هل اشعالها في كل مكان أفضل؟. أسأل لأنه لا يوجد خيار آخر يا جماعة سوى الحرب لحسم موقف الحركة الشعبية المأزوم شمالاً، أقول المأزوم عقب انفضاض سامر نيفاشا في 9/7 دون أن يجنوا شيئاً ملموساَ لكيانهم وجيشهم ومناطقهم، وقد أدبرت عنهم قياداتهم الجنوبية وانصرفت بكل المكاسب التي ظنوها مشتركة!. حقاً لم يكن هنالك خيار منطقي متاح سوى الحسم بالقوة، أو التواضع على اتفاق سلمي، لأن موعد انقضاء نيفاشا أزف، واستحقاقاتها تبددت، ولم يبق إلا الفراغ.. فإلى أين تذهب قوات الحركة التي تنتمي عناصرها إلى الشمال؟ هل يمضون في ستين داهية؟ وهل هذا قول مسؤول وأخلاقي؟ أم أنه مشين ومجازف. مشين ومجازف كونه عاطفياً مرتين، مرة لأنه يحاول أن ينتقم من (مطاريد/ مظاليم) الجيش الشعبي الجنوبي، وكأنهم هم ذلك الجيش الذي أذاقنا الأمرين طوال عقود بينما الحقيقة لا، فجيش مالك عقار والحلو إنما هم أناس مغدور بهم، خسروا الرهان، فأصبحوا ضحايا للانفصال وبامتياز. وثانياً فأن شخصاً مسلحاً ومدرّباً ومحترف حروب عصابات، ظل يقاتل من أجل قضية أجهضت، أو حتى لو كان يقاتل من أجل مصلحة شخصية فإنها قد انقطعت.. هل يعقل أن تقول له هيا سلمنا سلاحك مع السلامة لأن المولد انتهى؟! بهكذا طيب خاطر وبساطة..؟ معقولة؟. أم أن الحرب هي أولى من الاتفاق معهم ، بهدوء وحكمة ،على وضع يحقق لهم بعض المكاسب التي يبررون بها لأنفسهم وأهليهم تسليم السلاح والعودة بشيء آخر غير (خفي حنين)!؟، ثم هذه مسؤولية من؟ أليس قادة الدولة وأولياء الأمور؟ طالما أن هؤلاء مواطنون تقطعت بهم السبل والأحلام والزمان؟، فكيف تؤاخذون من يسدّ ذرائع التدخلات الدولية والتحالفات المحتملة مع قوى تمرد دارفور، وربما الجنوب نفسه ذات خلاف.. كيف يكون سد كل هذه الثغرات وأبواب الريح، انبطاحاً أو عملاً غير وطني وغير مقبول؟!، حسناً سأقول لكم لقد عرفت المشكلة. فلعلكم وقعتم في التباس فقط، اذ أنتم تبغضون الحركة الشعبية لما فعلت وفعلت، وفي الحقيقة فإنني لا أحسب أن تابيتا بطرس مثلاً ومالك عقار ولوال دينق راضون عن كل ما اتخذه صقور الحركة من مواقف وسلوك، فهذا واضح من آرائهم ومواقفهم العديدة التي كانت تجنح للوحدة والسلم، طول الفترة الماضية، وأنتم شهود، وما نريد قوله ههنا هو التنبيه إلى أننا إذا شئنا أن ننصف، وأن نقرأ الصورة على حقيقتها، وليس وفق التنميط الذي قد نركن إليه فسوف نكتشف فوراً أن الحركة الشعبية ( ( Splmتشكلها أربعة أركان، أو قل أربعة تيارات، ظلت تؤلف هذا الكيان الذي نظلم الحقيقة ونجافي الموضوعية إذ نتعاطى معه كعنصر واحد متجانس يتحمل المسؤولية كلها ومعاً.. فهذا غير صحيح، بدليل الانشقاقات التي أصابت جسد التنظيم الآن.. إذاً فما هي تلك التيارات المختلفة التي ظلت تشكل الحركةالشعبية ؟. أولاً والأهم هم القوميون، ويتقدمهم الدينكا القوميون ، وبالذات دينكا نقوك ، ان هؤلاء القوميين، وبينهم عناصر من قبائل أخرى، يجتمعون حول هدف الانفصال وتكوين دولة مستقلة تتأسس على المكنونات الثقافية التي يحرصون على إعلاء شأنها والبناء عليها. وثانياً هنالك تيار اليسار، وهذا ربما له أهداف تتقاطع وتنسجم مع أجندة الحزب الشيوعي السوداني المعروف، ومن رموز ذلك التيار ياسر عرمان، وباقان أموم، ود. كمير، وغيرهم من الشماليين خارج مناطق التماس غالباً، وهؤلاء لهم مشاعر عدائية تاريخية مزمنة تجاه الإسلاميين ودولة وخطاب الإسلاميين، وفي المقابل فإن الإسلاميين يبادلونهم الشعور ذاته، ما ينعكس على حواراتهم ومفاوضاتهم، وكل هذا واضح للعيان من خلال التجربة الصارخة التي لم تبدأ بنيفاشا وسوف لن تنتهي بنهايتها، انه صراع وجود، إما أنا أو أنت، ولا مجال للتعايش أو القبول المتبادل. وأما التيار أو العنصر الثالث المكون للحركة الأم، فهم دعاة استرداد الحقوق كاملة دون الحاجة إلى إبادة الإسلاميين سياسياً، وأبرز هؤلاء مالك عقار، وتابيتا بطرس، ولوال دينق، ولام أكول (قبل انشقاقه وبعده) ورياك مشار وربما حتى الحلو ( رغم أنني لست متأكداً ). وأخيراً هنالك تيار المستقلين الذين يؤازرون الفكرة المركزية التي جمعت كل أولئك وألفت بين شتيت قلوبهم ، أقصد فكرة (السودان الجديد) ، وإذ أصنف د. منصور خالد ضمن هذا التيار مشوباً بسيارية ما، فإنني أضع معه أيضاً كثيراً من الجنود والضباط، خاصة جنود النوبة وجنوب النيل الأزرق كلهم من فئة منتظري الحلم المستحيل. وهكذا فإن الصورة على هذا النحو تجعل من الميسور صب جام الغضب وتوجيه اللوم وحتى البغضاء والعقاب في الاتجاه السليم، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى ... أريد القول بإن الحركة التي تكرهونها وتريدون الانتقام منها بالطعن في ظل الفيل، بعد أن مضى الفيل ظافراً بالغابة، إنما هي حركات أو تيارات متجاورة ، ومن تريدون محاربتهم الآن ليسوا هم الذين صنعوا تلك الخديعة ولا هم الذين مارسوا اللأي، ولا هم الذين فصلوا الجنوب، فالذين فعلوا ذلك فاتوا ولم يبق من أضرابهم إلا يساريو الحركة الذين يتحملون جزءاً من الوزر، إذ إنهم حرصوا على محاربة المشروع الإسلامي والكيان السياسي الإسلامي وفرض العلمانية، أكثر من حرصهم على أي شيء آخر قد يهمهم أيضاً بدرجة اقل.. وأما جنود وضباط الحركة من أبناء النيل الأزرق وجنوب كردفان فهؤلاء ضحايا، يريدون أن يخرجوا بشيء بعد أن غدر بهم تيار القوميين الجنوبيين بالطريقة ذاتها التي وجهوها إلى الشمال عبر الاستفتاء، فهل تحاربون من يقاسمكم الهم ذاته (هم الغدر والخديعة)، أم الأولى لعق الجراح ولملمة الأطراف والسعي عبر التدابير السياسية ومن بينها هذه الاتفاقية الواعية، إلى خلق حياة جديدة ومشتركة تكون أفضل مما كانوا سيحققونه في ظل سلطان القوميين الجوبيين؟.بالله فرقوا بين الاعتراف باستمرار الحركة، والاعتراف بحقوق ضحايا الحركة المواطنين الشماليين، وفرقوا أيضاً بين استمرار قطاع الشمال كحزب سياسي وبين استمراره مسنوداً بجيش ضخم يضغط على الحدود . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.