زرت الدويم يوم أمس صباحاً وعدت منها عصراً ضمن الوفد الذي رافق السيّد رئيس الجمهورية المشير عمر حسن أحمد البشير، وهي مدينة لي فيها ذكريات طفولة وصبا وشباب، إذ كنت من المنتظمين في زيارتها سنين عدداً لكنني غبت عنها فترة طويلة، وكنتُ أحرص على زيارة عمي الأستاذ جبر عبد الرحمن المحامي رحمه الله هناك كثيراً، ولي قرابات ودم ورحم تربط بيني وبين آل لعوته «سليمان وعبد القادر» وأخوانهما وأبنائهما ومعارف وصداقات عديدة. الهم الأساسي والمشكلة التي تشغل البال دائماً كانت هي كيفية الوصول الى «الدويم» فالطريق الغربي الذي يربطها بأم درمان كان طويلاً ووعراً يجعل الرحلة تستغرق ست ساعات وربما أكثر.. وحتى بعد أن تم رصف طريق «الخرطوم/ ربك/ كوستي» الذي اختصر الرحلة الى ساعتين فقط إلا أن المشكلة كانت دائماً هي كيفية عبور النيل الأبيض من جهة «أبوحبيرة» في الشرق إلى مدينة الدويم في «الغرب» ففي أوقات الفيضان كانت الرحلة تستغرق أكثر من ساعة لأنّ النهر عريض الى الدرجة التي ما كانت تمكن الواقف في إحدى الضفتين من مشاهدة الضفة الأخرى.. وكانت الرحلة تستغرق في أفضل الحالات خمس وأربعين دقيقة ولم تنقص إلا بعد أن تم مد ردمية ترابية ألَحق بها شارع أسفلت لاحقاً لمسافة كيلومتر أو يزيد احتضن عند نهايتها مرسى البنطون العتيد. عانى أهل الدويم كثيراً وظل الكوبري حلماً وهاجساً ينتقل من جيل إلى جيل ولا زالت ذاكرة الأهالي تحفظ آخر خطاب للرئيس الراحل جعفر محمد نميري في العام 1984م عندما زار المدينة، واستقبله الآلاف داخل إستاد الدويم وظلت هتافاتهم تصل إلى عنان السماء وتطالب ب «الكوبري» واللوحات الخلفية التي شكلها الطلاب والطالبات حملت عبارة «عايزين كوبري» فانفعل الرئيس نميري وأمسك بيد السيد أبيل ألير الذي كان وزيراً للأشغال وقتها أو كما قال لي صديقي وزميلي ورفيق رحلتي الأستاذ صلاح عمر الشيخ، ثم أمسك النميري بيد أحد المسؤولين الآخرين ووقف يخاطب أهل الدويم وقال لهم إنّه لن يعود إليهم مرة أخرى إذا لم يتم تنفيذ وتشييد الكوبري.. فلم يتم التشييد ولم يعد إليهم النميري الذي زال نظام حكمه بعد ذلك بعام. قلت لصديقي صلاح عمر الشيخ إن وعد النميري وحلم أهل الدويم وئدا ودفنا في المقابر المجاورة للإستاد. الرئيس البشير وعد أهل الدويم بالكوبري، صفقوا له ولكن بعضهم كان يقول في قرارة نفسه إن الرجل كتب نهاية حكمه بذلك الوعد الذي ما قطعه رئيس على نفسه إلا وتبخر حكمه مثلما تتبخر أحلام المساكين في عالم الواقع المُر الذي عطل حياتهم وشقق حيطان دورهم وهجّر شبابهم. قطعاً ومثلما قال شاعر عربي مجهول: لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها لا يسهر الليل إلا من به ألم لا تحرق النار إلا.. رجل واطيها *** لذلك لم يحس بالمعاناة إلا أهل الدويم، ولم يشعر بالألم إلا هم.. ولم يذق طعم الفرحة إلا هم.. ولذلك جاء كل أهل النيل الأبيض من كل فج عميق وتجاوز عدد الحضور المائة وخمسين ألف رجل وامرأة وطفل.. ما كنّا لنصدق ذلك لو لا أن رأينا مئات الآلاف في ميدان الاحتفال وحوله وبعضهم محتجز في الجانب الآخر من الكوبري، ورغم ذلك يرفعون لافتات تقول: «شكراً البشير.. صادق الوعد». لقد أوفى البشير بعهد النميري لأهل الدويم.. رحم الله الرئيس جعفر محمد نميري رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وأمد الله في أيام الرئيس عمر البشير وبارك له فيها وفي أيام حكمه.. وبارك الله لنا في أنفسنا وأزواجنا وأبنائنا وأهلنا ووطننا وجعله جنة في عيوننا وناراً في عيون الطامعين.. آمين. ..و.. جمعة مباركة..