يا خسارة.. اليوم يبدو وطن «المليون ميل مربع» كمن يساقُ وحيداً إلى ساحة الإعدام.. ليشهد «عذابه» طائفة من هنا وطائفة أخرى من هناك، وتبث الكاميرات وينقل «الخشّامة» قراء التقارير تفاصيل الحدث الفظيع، وكيف أن «المقصلة» فعلت فعلها بلا رحمة في ذلك الجسد الهزيل.. يا خسارة!! ينسبون إلى الزعيم الأزهري قوله إن استقلال السودان، الذي لعب أروع الأدوار في انتزاعه، جاء نظيفاً سليماً مثل «صحن الصيني» بلا شق ولا طق. وإذا ما حاولنا اليوم استخدام نفس الاستعارة للتعبير عن بتر الجنوب، فسوف نجد أن الصحن الصيني قد وقع وانكسر وتبعثر إلى شظايا ونثارات. فما الذي جرى، وكيف خسرنا «ذلك» الوطن الكبير، ولم نستطع أن نحافظ عليه كالرجال الحكماء. تركناه يتسرب من بين أصابعنا المرتجفة ومن تحت أبصارنا الزائغة في لحظة ضعف وارتباك ووهن غير مسبوقة. لقد فقدنا ذلك الجزء العزيز والثمين من بلادنا لقاء حزمة من الأوهام: وهم السلام، وهم التطبيع مع الغرب، ووهم المعونات السخية والديون المعفاة.. ولقد تبخرت كل تلك الأوهام، واحداً بعد الآخر.. فلا سلام بل حرب متلظية في جبال النوبا، تعقبها أو تتزامن معها مهددات حرب في النيل الأزرق. وتغري تلك الحروب كل ناقم أو طامع أو صاحب مظلمة أو ثأر ليرفع بندقيته بوجه الخرطوم. ولا شك أن كل مسؤول مسؤول- تكرار مقصود- قد أدرك الآن أننا «أكلنا المَقْلب» ودفعنا الثمن دون أن نستلم «البضاعة»، ومن أسف فإن البضاعة غير قابلة «للاستيراد» طوعاً أو كرهاً. وذلك أن «العصفور الجنوبي»- التواق إلى الحرية والعدل والمساواة- رأى القفص مفتوحاً فطار في سماوات الانعتاق الفسيحة، وليس منظوراً أن يعود إذا حاولنا استعادته إلى قفصه قسراً. عندها سيهب العالم «المتحضر» والحاضر «للشينة» ليجعلنا «نلحس أكواعنا وأبواعنا». في التصرف المرتقب «للعصفور الجنوبي» الطليق درس بليغ لحكام الخرطوم، حتى يتعلموا أن الشعوب تفضل الحرية، حتى لو اقترنت بالفقر والجوع والهزات الأمنية. ولقد كان ذلك حالنا في السودان المنهك الضعيف الذي ورثته «الديمقراطية الثالثة» عن سنوات نميري الجهولة، ورغم ذلك لا زال عقلاؤنا يعتبرونه من أضوأ فترات حكمنا الوطني. حينذاك، لم تعد تهمنا طوابير الخبز وطوابير الوقود السهرانة حتى طلوع الفجر. رحنا نختلج بسعادة حقيقية ونحلم معها بمستقبل زاهر، مُوقنين بأن «كل شدة إلى زوال». وكل ذلك دون أن نفرِّط في شبر من أرْضنا أو أخلاقنا أو شرفنا، ودون أن تلفظ المدارس تلاميذها أو المشافي مرضاها، ودون أن يُذكر الوطن في المحافل الدولية والإقليمية بسوء أو يُدرج في قوائم التفريط في حقوق الإنسان أو رعاية الإرهاب أو يصبح نهباً للملاحقة،أو تعجز الدولة الديمقراطية وارثة الإنهاك والمجاعات عن تزويد «جيش عسرتها» الصامد المنتصر. الآن في سبيل ديمومة السلطان، تُدمي قلوبنا وتضاف إلى نكباتنا الوطنية نكبة لا تقل عن نكبة الأندلس أو نكبة فلسطين، بعد أن رفضت حكومتنا السنية كل مناشداتنا وتحججاتنا وحتى فتاوينا الدينية، لتفي بوعدها لخادعيها من أهل الكفر الصراح، مؤملة أن يكتب لها البقاء عن ذلك الطريق، غير مدركة أنها قد دقت الأسفين في ذاتها وبين أقدامها وساقت شمسها إلى أفول راجح. لكأنما بتروا ذراع كل منا اليمين، يوم بتروا جنوب الوطن، وسلموه لاحتمالات الفوضى والخراب، لكأنما نزعوا القلب من مستقره وضربوه بالسواطير يوم خرجوا علينا بخريطة بلادنا الجديدة ذات الصدوع والشروخ والهلاهيل. لكن ما هو أكثر إيلاماً ونكأً للجراح النازفة هو أن لا نستطيع إقامة مأتم علني أو ننصب سرادقاً للعزاء لوطننا «الراحل الكبير»، فالتفسير الأرجح لدى السلطان في هذه الحالة هو أننا «نستقصده» ونرفع الجنوب «قميص عثمان»، ولكن ما دروا معنى قول أهلنا الفصيح «البكا بحررو أهلُه»، وأهل السودان موجوعين، حتى لو كفكفوا الدموع ولزموا الصبر الجميل. رأيناهم كيف يذرفون دموع الفراق في حفل الوداع، ذاك الذي تناقلته الفضائيات يتعانقون ويتوادعون تخنقهم العبرات، ومع ذلك وقف أحدهم يهنئهم بقلب كالحجر أو أشد قسوة «بنجاحهم في الاختبار».. أي اختبار ذلك الذي نجحوا فيه، غير الطلاق والانفصال الذي هو «أبغض الحلال عند الله». لو صدق مع نفسه ومع سامعيه، لقال قد فشلنا في الاختبار، اختبار أن نبقى معاً نشد أزر بعضنا بعضاً ونتعاون على البر والتقوى والإحسان، ونحافظ على وطن ورثناه موحداً وتلطفنا به هوناً، حتى نسلمه «صاغ سليم» إلى الأجيال من بعدنا. إنه ليس وقتاً للتفصيل والتحليل، «فالبكا حار» والجرح طري، وما علينا- والحال كذلك- إلا أن ننطوي على آلامنا وجراحنا ونقيم بين أضلاعنا «مأتماً سرياً» لوطن المليون ميل مربع، وطن الخيرالحدادي مدادي، جناح الفراش الذي يهيم بالتحليق، والذي طالما تغنينا به وأنشدنا له، ولكن.. يا خسارة.. فقد استحال الغناء بآخر الليل إلى نحيب، واستحال النشيد إلى مرِّ النشيج.. فلا حول ولا قوة إلا بالله!