ثمة نظريتان كليتان تقاربان مبعث انفصال جنوب السودان عن شماله ، الأولى يجسدها خط منبر السلام العادل ومن والاه ، وهي تذهب إلى أن الشمال هو الذي انفصل عن الجنوب بعد أن استغنى عن تقحمه المختلق فدفع الجسم الغريب بهذا الاتجاه دفعاً ومهد له تمهيدًا ، بغية التخلص من عبء ثقيل اقتصادياً وسياسياً وأمنياً تحمله الشمال حيناً من الدهر بلا سبب ، وبلا مردود ، ولقد كان الحياء السياسي وحده الداعي للسكوت عن هذه الحقيقة البلجاء من جانب الأحزاب السياسية ، بل وحتى الحكومات العسكرية ، إذ لا يود أحد أن يفقد الوطن شبرًا من التراب في عهده لتبقى تلك وصمة تلاحق ذكره. والآن وبعد أن تجمعت المقومات الكافية وواتت الظروف المسوغة، قرر المؤتمر الوطني أن يكون الأكثر شجاعة وواقعية بهذا الصدد ، فتحمل خطر الإقدام نحو وضع الأمور في نصابها فأفسح الطريق عبر استحقاقات نيفاشا أمام القوميين الجنوبيين ليحققوا رغبتهم التاريخية، فكان ما جرى تتويجه أمس في جوبا . وأما النظرية الثانية فهي التي جعلت الحركة الشعبية مالكة لزمام المبادرة بهذا الخصوص ، إذ هي التي انطلقت في الأساس لتحقيق هدف ( تحرير شعب جنوب السودان ) بادئ الرأي ، ومن ثمّ تطور فكرها السياسي وجرى توسيعه ليشمل كل شعب السودان بفضل المُفكّرين الشماليين الذين التحقوا بالحركة ورفدوها برؤاهم وطموحاتهم ووجدوا استعداداً ايدولوجياً مسبقاً لدى الدكتور جون قرنق بحكم ميوله السياسية اليسارية قبل التمرد ، فكان طرح السودان الجديد العلماني الذي يخاطب أماني كثير ممن التحقوا بالحركة فيما بعد من الشماليين بخاصة ، وملخص رأي أصحاب هذه النظرية هو أن قادة الحركة الدينكا أضمروا غايتهم الأساسية الى حين تحقيق النصر النهائي الذي يحتاج حتماً إلى أعوان من مختلف المشارب والإمكانات ، ثم بعد ذلك لكل حدث حديث !. وبرهان أصحاب هكذا رأي هو انقلاب قيادة الحركة أخيراً على بند ( العمل معاً نحو جعل خيار الوحدة جاذباً بالنسبة للمواطن الجنوبي في الاستفتاء ) فكان موقفها المعلن والعملي والقاطع باتجاه الانفصال مدعومين بإرادة قوى دولية لا يستهان بها ، فكان ما جرى تتويجه في جوبا أمس . ولكن في نظرنا المتواضع فإن النظريتين قد وقعتا في أخطاء منطقية تجعل نتائج القراءة مصطنعة . فأما النظرية الأولى ، التي جعلت المبادرة والمسؤولية في جانب المؤتمر الوطني ، فإنها قفزت على حقيقة كون الحزب الحاكم في الشمال هو الذي اعتبر استخراج النفط منجزه الاقتصادي الأهم والتاريخي ، فلو كان يخطط استراتيجياً لفصل الجنوب لما أهمل مسألة تركيز حقول البترول في الجزء الذي سيفقده ، وهاهو يعترف ويرتجف فرقاً من تأثر الموازنة العامة برحيل النفط مع ذويه . فلا يعقل أن يكون الانفصال اختيارًا من قبلهم ، بل إن البشير أعلن رسميا استعداده للتضحية بكل موارد النفط للجنوب فيما إذا تبنت الحركة خيار الوحدة ودعت شعبها الى ذلك ، وفوق هذا فإن ( الدلع ) الذي أتاحه المؤتمر الوطني للحركة فيما يلي قسمة السلطة يفوق كل خيال ويدعو للعجب ، كونه غير مسبوق ، وغير مفهوم حيث الجنوب كله لها وحدها ونصف البترول ثم بعد ذلك ثلث السلطة في الشمال ، عسى أن ترضى ، فما رضيت ! . وإزاء طرح النظرية الثانية نقول إن تيارات الحركة ثلاثة والرابع هو تيار التبعية للإطار العام المشكل لفكرة الدولة العلمانية التي تمنح المستضعفين والمهمشين ما لم يحصلوا عليه من حقوق قبلاً ، وأما التيار الأول فهو تيار القوميين الجنوبيين ، وهؤلاء هم أحرص الأطراف على الانفصال ويسمونه الاستقلال ، وهم الأسعد إطلاقاً أمس، ويشاطرون منبر السلام العادل الرأي بطريقة ما، حيث إن إلحاق الجنوب بالشمال عندهم كان خطوة مفتعلة لا أساس لها ، وإنه بينما هوية الشمال تكاد تكون متجانسة ( الهوية هي ثقافة المجتمع من حيث العقيدة واللغة والعادات والوجدان المشترك) بينما شأن الجنوب والجنوبيين مختلف . وأما التيّار الثاني فهم اليساريون وهؤلاء في الغالب شماليون على صلة بالحزب الشيوعي أو غيره من قوى اليسار العريض ، وأخيرًا التيار الثالث الذي يشمل قادة الهامش الليبراليين أو اليساريين وهؤلاء ينتمون الى الشمال أو أطراف الشمال ، ويجمع بين كل هاته التيارات شيء واحد دائماً ، كل طرف يجد ضالته فيه حتى ولو لم تكن أولويته كغيره .. ذلك الشيء هو : السودان الجديد العلماني . وبناء على هذا التصنيف سنكتشف أنه لا مصلحة لتيار اليسار ولا تيار المهمشين الشماليين ولا اتباع الطرفين من جنود وصغار ضباط في خيار الانفصال طالما أنه ضد طموحهم ومطالبهم ، وهكذا لا يبقى إلا تيار القوميين الجنوبيين ( خاصة الدينكا ، وبالأخص دينكا نقوك بجانب القوميين من قبائل أخرى ) هؤلاء هم من سعى بإخلاص ومنذ اللحظة الأولى من أجل هدف الانفصال ، ولم يكن أملهم هذا ليرى النور لولا الظروف التي واتت ، على نحو متلاحق وقوي بجانب الدعم الدولي الكاره لنظام البشير كراهية لا مثيل لها . فلقد مات قرنق الذي يصعب أن نقول إنه كان يخدع تيارات اليسار والمهمشين الشماليين حينما دعا الى السوان الجديد العلماني الموحد . ولقد لعب أسلوب تطبيق بنود نيفاشا دوراً كبيراً في تعزيز الفجوة النفسية بين خصوم الأمس شركاء اليوم ، والخطأ الكبير ( لا أدري ما إذا كان مقصودًا أم لا ) هو إشراك راديكاليي التيار اليساري في الحركة وغلاة القوميين في عملية تطبيق الاتفاقية ، فكانت معظم أحداث التشاكس نابعة من احتكاك باقان أو دينق ألور أو عرمان أو أتيم قرنق بوفود المؤتمر الوطني المتشددين بالمقابل. نخلص إلى أن المسؤول الحقيقي عن الانفصال ليس حزباً أو جماعة وإنما شيئان أساساً، هما : ( اضطلاع الراديكاليين بأمر إنفاذ نيفاشا وما اعتمدوه من أسلوب عدواني وعاطفي في التفاوض+ دفع التدخل الدولي ذي الأجندة الخبيثة ) ولا يبقى فوق هذين سوى مواتاة الظروف المحفزة ، من نوع غياب جون قرنق وضعف صوت الوحدويين داخل قيادة الحركة وعدم فطنة الحكومة لنتائج عنادهم الجذري إزاء مطالب الراديكاليين العلمانية ما أضعف موقف القادة الوحدويين داخل الحركة ، بمعنى أن الانفصال قد تحقق نتيجة خطأ فني إداري جرى استغلاله من متربصين ضمن ظروف مواتية فحسب.