تنامت وتزايدت خلال السنوات الأخيرة أعداد المحبوسين بسبب «الحق الخاص» وبصورة خاصة محرري الشيكات أو ما يعرف باسم (يبقى إلى حين السداد) عملاً بنص المادة (243)(1) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م ونصها متى كان الحكم متعلقاً بالوفاء بدين أو يقضي بسداد مال فيجب القبض على المدين وحبسه حتى الوفاء بدينه، والشخص الذي يحدد بقاءه في السجن أو خروجه هو الدائن وليس القاضي كما في القضايا الجنائية... ومن الملاحظ أن جل أو أغلب الأسر السودانية لها شحص داخل السجون، فهنالك من يسارع ذووه إلى دفع ما عليه لكي يخرج، وهنالك من يبقى إلى حين السداد وتطول به المدة وهنالك من يسلم روحه للخالق قبل سداد الدين.. هذه الملاحقات وغيرها تفتح الباب أمام عدد من التساؤلات لمعرفة ما هي الأساب التي أدت إلى تزايد ظاهرة اكتظاظ السجون بأصحاب الشيكات المرتدة؟ وما هي الآثار الاقتصادية والاجتماعية لهذه الظاهرة؟ ومن ناحية ثانوية (يبقى إلى حيث السداد هل هي منصفة للشاكي والمشتكي؟ في الحلقة السابقة تركنا المجال لأصحاب القضية كي يحددوا لنا الأسباب التي جعلتهم يحررون الشيكات دون أن يكون لديهم رصيد، ومعرفة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي ترتبت على دخولهم السجون، حيث اختلفت الأسباب ولكن النتيجة كانت واحدة إذا كانوا نساءً أو رجالاً. ورأينا في هذه الحلقة أن نبرز الرأي القانوني والاقتصادي في هذه القضية التي أصبحت حديث كل مجلس، فأما الدائن فإنه يشتكي لأهل المدين ويصف محرر الشيك بأنه محتال، أو تجد بعض الأسر تتسارع خلف الدائن لتصل معه إلى تسوية، وفي كلا الحالتين لا يزال محرر الشيك خلف القضبان.. ويبقى إلى حين السداد. نجد أن القانون السوداني أولى الشيكات المرتجعة عناية خاصة وجعل ارتجاعها جريمة يعاقب عليها القانون، حيث قال الخبير القانوني السيد إن ارتداد الشيك فيه احتيال، لأن صاحب الشيك على علم بأنه ليس لديه رصيد، وفي هذه الحالة من الممكن أن يرفع الدائن دعوة جنائية ضد صاحب الشيك، متهماً إياه بالاحتيال، كما أن له الحق في رفع الدعوة المدنية بأن ذلك الشخص ليس لديه رصيد، وأنه متمسك بنقوده ولكن غالباً ما يلجأ الناس للمحاكم الجنائية، لأنها تصدر أمراً بالقبض على صاحب الشيك ووضعه في السجن، والإجراء هنا إما أن تدفع ما عليك أو توضع في الحبس إلى حين السداد، ولو ذهب بالطريق المدني فهي ذات الإجراءات والمحكمة تخير المدين بين أن يدفع أو يتم حبسه إلى حين السداد، والإجراءات المدنية هي نفسها الإجراءات الجنائية، إلا أن الفرق بينها أن الإجراءات الجنائية تبدأ بالقبض والسجن. وحول «يبقى لحين السداد» اختلف فيها الفقهاء، فمنهم من يقول يبقى إلى حين السداد، ورأي آخر يقول لا يبقى إلى حين السداد، بل يعمل لكي يسدد.. ورأي ثالث يقول يبقى إلى حين ميسرة، ونحن نعمل بأسوأ الآراء وهي يبقى إلى حين السداد، المشرع فتح باباً رابعاً وهو يبقى الشخص في السجن ويقدم طلباً بأنه معسر، وبالتالي يأتي بشهود من اللجنة الشعبية بأنه كذلك، وهنا يقال للدائن بأن المدين لا يفيد بقاؤه في السجن، ومن المفترض أن تراقب إذا «جاءته قروش».. وهنا يخرج المدين من السجن بالإعسار «ويضيع» صاحب الشيك. الأستاذ بارود صندل رجب الماحي قال إن المادة «179» تتحدث عن جريمة إعطاء صك مردود، والمبلغ الموجود منه لابد أن يكون واحداً من اثنين، إما بمقابل.. والمقابل لابد أن يكون حقيقياً وشرعياً، أو وفاء بالالتزام.. والفرق بسيط، والمادة في باب الاحتيال، لأن أصل الشيك عبارة عن مبلغ ومن المفترض عند الأجل ان يسلم، والذي يكتب الشيك يعلم أنه لا يملك المبلغ ويستعمل الشيك وسيلة لإظهار خلاف الحقيقة، وبناءً على هذا تحصل منفعة، والمادة «178» تقول إن مرتكب جريمة الاحتيال من يتوصل بسوء قصد إلى خداع شخص بأي وجه ويحقق بذلك كسباً غير مشروع لنفسه أو لغيره أو يسبب بذلك للشخص أو لغيره خسارة غير مشروعة، ومن يرتكب جريمة الاحتيال يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز «3» سنوات أو الغرامة أو العقوبتين معاً. ومن يرتكب للمرة الثانية جريمة الاحتيال يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز خمس سنوات، كما لا تجوز معاقبته بالغرامة. ومن تعريف الاحتيال يكون بارتداد الشيك قد توفرت جريمة الاحتيال، والشيك يكون محل بلاغ.. والنيابة إذا تأكدت من البنك أنه لا يملك الرصيد الذي يوضح عدم صرف الشيك وفي بعض المرات من الممكن أن يكون لديه نقود توفي الشيك، إلا أنه يكتب الشيك خطأ حتى لا يستطيع الدائن صرفه من البنك، والعقوبة هنا السجن لفترة لا تتجاوز «5» سنوات والغرامة أو الاثنان معاً، ويوجد تفويض للمحكمة يحكم على صاحب المبلغ، والغرامة يتم تنفيذها عن طريق المحاكم المدنية لكن المحكمة الجنائية لها سلطة تقوم بتنفيذ إما أن تكون لديه منقولات في حدود المبلغ، أو يتم الحجز على العقار، وهذا يتم بناء على طلب صاحب المبلغ أن يدخل السجن إلى حين السداد، وصاحب المبلغ هو الذي يملك إخراج المدين من السجن.. ويوجد ما يعرف بالإعسار، وهذا يكون بعد «6» شهور من السجن، ويمكن أن يطلب من المحكمة إثبات إعساره، والمحكمة تثبت ذلك وتخرجه من السجن إلى حين «ميسرة». وفي بعض الأحيان المحاكم ترفض الإعسار، وفي هذه الحالة يظل إلى حين السداد. من الصعب وضع حلول لقانون يبقى إلى حين السداد، لذا لابد أن يستمر بشكله الحالي، والقانون الموجود يجب أن يكون فيه تشديد في العقوبة لعدم المراقبة في كتابة الشيك، بحيث إنه إذا كتب الشيك، تكون العقوبة شديدة، وهذا هو الحل للحد من ظاهرة «الشيكات المرتدة»، لأن المادة خصصت لتضمن للدائن حقه، فمن الممكن أن يقتل المدين الدئن، فالقانون ليست فيه سلبيات لكن السلبية في الذين يتحايلون عليه. ولمعرفة الآثار الاقتصادية المترتبة على ظاهرة الشيكات المرتدة وأثرها على الاقتصاد القومي، التقينا بالخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله حسن أحمد الذي قال إن الشيكات المرتدة جريمة ولكن لا توجد أحكام محددة لها، لذا يبقوا إلى حين السداد، ومن ناحية اقتصادية فهي كارثة كبيرة والمتضررون في المرتبة الأولى هي البنوك، لأن هذه الشيكات أغلبها لصالح البنوك نظير عمليات تمويل، وغالباً في عمليات التسديد الضمانات للبنوك تكون غير كافية أو على أصول قيمتها لا تعادل القروض، وكثير من البنوك تواجه صعوبة في السيولة والأزمة تكون من عدم السداد، وأصبح أغلب الناس تتحايل على البنوك بأن تأتي بشخص يمكن أن يدخل السجن بدلاً عن المدين الأصلي، ويتعهد صاحب الدين بإعاشة أسرته البسيطة، وهذه العملية تسمى في البنوك باسم الجوكية. وهذا أدى إلى انهيار بنوك واضطرت الحكومة لدعم بعض البنوك، بجانب الدفع لمؤسسات حكومية الضرائب كجزء أساسي في ميزانيات الدولة، وكل الجهات الحكومية التي تتعامل مع الجمهور تتأثر بذلك، وأثر الشيكات على الاقتصاد تراكمي. دكتور محمد الناير الخبير الاقتصادي قال: إن ظاهرة ارتداد الشيكات أثرت سلباً على النشاط الاقتصادي في السودان وتحديداً النشاط التجاري، وتحولت هذه الظاهرة بعد أن كان كل السودانيين في الماضي وخاصة التجار، يتعاملون بالصدق والأمانة وأحياناً كانت كلمة التاجر تكفي وتكون بدل الكاش ويلتزم بالسداد. وكان هناك ما يعرف بالكمبيالة تعهد بالدفع، وكان التاجر يقدمها في الوقت المحدد. وفي الوقت الراهن حدث تغير كثير، وأصبحت الشيكات المرتدة تمثل هاجساً للنشاط التجاري في البلد خاصة ما يعانيه السوق إحياناً من شح في السيولة مما يضطر التجار للتعامل بنظام الشيكات، وأصبح لا يهم تغطية الشيك في موعده المحدد، لأن بعض الأشخاص يحررون الشيكات وهم يعلمون تماماً أنهم لا يستطيعون تغطية هذا الشيك، وعلى علم تام بأنها تدخله السجن، لذلك البعض يرى أن البنك وسيلة لكسب الوقت، والآخر وسيلة للاحتيال وآخر للكسر، وهذه الأسباب جعلت السجون تكتظ بأصحاب الشيكات المرتدة، وهم ليسوا من محدودي الدخل، لأن البسطاء لا يتعاملون مع الشيكات وليس لديهم ما يكنزونه، ولكن السجون امتلأت برجال الأعمال وبعض الأسماء المعروفة في المجتمع، والبعض يرى أن يقضي مدة في السجن لحين أن يجد عفواً من صاحب المال، أو يجد من يدفع عنه المبلغ، وقد يحرر شيكات أخرى.. والأدهى والأمر أن يكون داخل السجن ويحرر شيكات أخرى، وكل هذه التصرفات أضعفت من قوة الشيك كمستند، فهو أقرب لورقة النقد.نجد أن بنك السودان اتخذ العديد من الإجراءات ولم تكن فاعلة، ويبدو أنها غير مجدية، لذلك على بنك السودان أن يجد بدائل أخرى للضبط. كما أن سياسة التحرير أفرزت ارتفاع مستوى الأسعار وعدم قدرة المواطنين على تلبية احتياجاته الضرورية مع الضغوط الموجودة وعدم وجود سيولة، أفرزت ظاهرة البيع بالتقسيط، وهذا جعل محدودي الدخل يضطرون لإصدار شيكات لشراء تمويل أصغر، وفيها البعض عجز عن السداد مما أدى إلى دخوله السجن.