جاء في أخبار الخميس أن وزير العدل محمد بشارة دوسة أحال «قضية» تقاوي عباد الشمس الفاسدة إلى النيابة العامة ونيابة المال العام لاتخاذ الإجراءات القانونية في مواجهة المتورطين، بتهم بينها خيانة الأمانة واستلام تقاوي مخالفة للمواصفات، ووجه الوزير النيابات بالبدء فوراً في الإجراءات. بين الذين أحالهم وزير العدل إلى نيابة المال العام مدير البنك الزراعي والمديرين التجاري والمالي بذات البنك، ورئيس وأعضاء لجنة العطاءات ، بالإضافة لملاك شركة هارفست وملاك اسم العمل لشركتي أقرونيد وأقروتلج، بجملة من التهم المتعلقة بالتصديق على إجراءات العطاء وصرف مبالغ مالية واستلام أموال دون وجه حق وغيرها من تهم القانون الجنائي وقانون الإجراءات المحاسبية، كما أوصى تقرير وزير العدل المرفق بالقرار إحالة كل من رئيس لجنة التخليص ومدير الإدارة القانونية بالبنك الزراعي لمجلس محاسبة، كما أوصى مدير عام جهاز الأمن بتشكيل لجنة محاسبة لمندوب الأمن الاقتصادي في الملف بسبب الإهمال والمتابعة. قرار الوزير دوسة، أول وزير عدل في عهد الإنقاذ يقدم على مثل هذه «الخطوة الجبارة» - محاسبة الفساد والمفسدين- يستحق الإشادة والتثمين، فلسنوات طويلة ومتعاقبة ظلت بلادنا تعيش في واقع تظلله سحب داكنة ويبلِّله مطر أسود، وتكتم أنفاس الناس فيه روائح الفساد المنتنة، يرى الناس المفسدين يتبخترون في بهرجهم ويتطاولون في البنيان ويمتطون فاره الركائب، يعرفونهم بسيماهم و«شالاتهم» المطرزه بألوان مقززه تنم عن ذوق ردئ ومتشبث بزخرف الحياة يفتقر لذائقه فنية وجمالية تساعد على حسن الاختيار، كل ما رأوهم على هذه الحالة، ولسوء الحظ فهم يلتقونهم كفاحاً صباح مساء وفي كل يوم، لا يملكون إلا أن «يغضوا الطرف» من بشاعة المنظر ويحوقلوا داعين العلى القدير أن «يحسن خلاصهم» ويُعجل بالنصر وبالفرج. خطوة دوسة، «خطوة جبارة» لأنها «علقت الجرس» لأول مرة، وبشكل مباشر على رقاب متهمين بالفساد، قد يصبحون إذا سارت القضية - قضية التقاوي الفاسدة- إلى منتهاها، قد يصبحون وتصبح قضيتهم مقدمة في ملف وكتاب كبير يحمل عنوان «غيلان الفساد»، ولذلك لن نندهش إطلاقاً إذا ما بدأ «الحفر» منذ الآن بأظافر هذه الغيلان لإثارة الغبار حول القرار وصاحب القرار، وإذا ما كشرت عن أنيابها ورفعت عقيرتها بوعيد «علينا وعلى أعدائنا»، لذلك فإننا لا نتوقع أو نتصور أن خطوة دوسة ستمر بسهولة وتمضي إلى منصات المحاكم والمحاكمات العلنية والعادلة دونما كروت «صفراء» أو «حمراء» يرفعها «حكام» غير عدول لمعاقبة أو طرد من تعرضوا للعرقلة وليس من أتوا المخالفة وارتكبوا «الفاول»، وربما يضطرون في آخر اليوم إلى «إلغاء المباراة» أو «دك الورق» بلغة الكتشينة. خطوة دوسة، جاءت بعد سنوات متطاولة شاهد فيها السودانيون المراجع العام يخرج عليهم كل عام من على منصة «المجلس الوطني»، ذات المجلس الذي أحال قضية التقاوي الفاسدة إلى وزارة العدل، ليعلن على رؤوس الأشهاد «النهب المصلح أو المسلح»- لا فرق- للمليارات ويمضي كل شيء كالمعتاد، لا محاكمة ولا محاسبة ولا يحزنون، بل يصبح النهابون بما حصدوا فرحين، حتى يأتي العام الذي يليه ليصعد المراجع العام على ذات المنصة ويعلن عن الأرقام الإضافية والنسب المتصاعدة في الاعتداء على المال العام وخيانة الأمانة والتبديد وسوء الإدارة ومخالفة اللوائح المالية، يحدث هذا بينما توجد إدارة متخصصة في وزارة العدل مهمتها مكافحة الفساد والثراء الحرام، ولم نسمع إلا طنطنة خجولة تصدر من عندها أو من بعض المحاكم حول «بعض التسويات» مع المعتدين على المال العام، بعد أن يكونوا قضوا وطرهم و «أفادوا واستفادوا» مما نهبوا.. «ويا دار ما دخلك شر». مما يجعلنا نشفق على الوزير دوسة وعلى مستقبل الخطوة التي ابتدرها هو أن «الفئة الباغية» على الشعب ومقدراته تحت لافته «التمكين» لن تستسلم بسهولة، ولذلك ولكي تمضي هذه الخطوة أو «المحاولة» إلى غاياتها لا بد أن تلازمها خطوات أخرى وقرارات تعضدها وتشد من أزرها كتلك التي تضمنها القرار برفع إحصائية أو مدونة شهرية بالبلاغات الخاصة بالمال العام وبيان بموقف الإجراءات المتخذه حيال تلك البلاغات، وتحميل المستشارين القانونيين بمختلف المؤسسات الحكومية مسؤولية التفريط أو عدم متابعة البلاغات المتعلقة بالاعتداء على ذلك المال العام، وفوق هذا وذاك إرادة صلبة وعزم لا يلين من الوزير دوسة ومن «أصحاب الوجعة» في النظام الحاكم. لغيلان الفساد أساليبها وحجمها التي تمكنها من التأثير على أصحاب القرار، وأخطر تلك الأساليب وأبلغ تلك الحجج نفاذاً وفتكاً، هو تخويف صناع القرار هؤلاء من أن «الحرب على الفساد» سترتد عليهم وأنها ستضعف موقفهم السياسي أمام المعارضين الذين يتربصون بهم الدوائر، وأن عليهم بالتالي أن يصمتوا أو يكلفتوا الموضوع حتى يتم نسيانه، لأن فتح هذا الباب- بحسب رؤية الغيلان التي تثقب كل شيء- «حيجيب الهوا» للجميع وليست لهم وحدهم.