لازالت المعارضة مسكونة بهاجس إسقاط النظام، كما كان ديدنها من خلال المخطط الغربي المعلن، وهو إسقاط النظام عن طريق جيرانه، ثم من خلال إسقاط النظام من الداخل، إما بالانتفاضة الشعبية، وإما بالاستحقاق الانتخابي، وقد عجز المخططان، وأصبح النظام أقوى من أي وقت مضى. وها هي الآن تننتظر نتائج الاستفتاء حتى تحمِّل المؤتمر الوطني المسؤولية عن خيار الانفصال إذا وقع، رؤية سياسية قاصرة لا ترى أكثر من قدميها، وهي تقدم المصلحة الحزبية الأضيق على المصلحة الوطنية الأوسع. لذلك كان لابد- و في هذه اللحظة السيكولوجية- من تحليل لهذا الموقف المعارض، وهو موقف غريب تجاوزته أحزاب سياسية في العالم الثالث برؤية أكثر إيجابية تجاه القضايا ذات المساس بمصير وطنها، وهذا التحليل يجري في هذه الخطوط الخمسة: 1 في إطار حراكها الحزبي لاسترداد سلطتها المفقودة- وربما بقوة دفع غربي- عقدت هذه الأحزاب مع الحركة الشعبية مؤتمر القضايا المصيرية الشهير بأسمرا، والذي كان في صدارة مقرراته منح الجنوبيين حق تقرير المصير، كأول بادرة «حزبية» في تاريخ السودان مضادة لمصير الوحدة، فلما دخلت الحكومة في المفاوضات الحاسمة مع الحركة لحل نزاع الجنوب بالتسوية السلمية، وجدت هذه الحكومة تقرير المصير أمراً واقعاً مجمعاً عليه من المعارضة، وهي التي منعته، فتعاملت معه هذه الحكومة بمرونة إيجابية، دون مزايدة أو مناقصة حوله، فالمعارضة هي البادئة بتقرير المصير. 2 نصت اتفاقية السلام على أن يعمل الشريكان، وليس أحدهما دون الآخر، على تغليب خيارالوحدة، وكانت نتائج الانتخابات الأخيرة، بجانب كونها وفاءً باستحقاقات إنفاذ الاتفاقية ، بمثابة استفتاء على التزام الحكومة بخيار الوحدة، وكان موقف المعارضة أثناءها الدخول في تحالفات عديدة مع الحركة لإسقاط النظام، دون أن تقوم بجهد حقيقي لتغلب خيار الوحدة وهي تحالفات انحازت فيها إلى مواقف الحركة في خلافاتها الأساسية مع المؤتمر الوطني حول إنفاذ مستحقات الاتفاقية بينما الحركة تستغل هذه الأحزاب لتمرير أجندتها الخاصة. 3 ظلت الحكومة في إطار التزامها بالاتفاقية حريصة على الحقوق المشروعة للولايات الشمالية، في الأرض والحدود والثروة والسلطة، بالقانون والعرف، بينما كانت هذه الأحزاب حريصة على تحالفها مع الحركة، لإسقاط النظام وكأنه مرض مزمن لديها لا شفاء منه، وكأن مصير الولايات الشمالية لا يعنيها في شئ، وظلت الحركة، من الجانب الآخر، تدأب لاستخلاص أية تنازلات من الحكومة لصالح الولايات الجنوبية. هذا مع أن العلاقات بين شطري البلاد تقوم بجانب عوامل أخرى، على المصالح المشتركة المتبادلة، كانت هكذا قبل الاستفتاء، وستظل كذلك بعده مهما كانت نتائجه، هذا ما يعطيه الواقع «الجيوبوليتيكي» بين الشطرين، وكأنه يفرض الاتحاد الكونفدرالية فرضاً، وقد ظهرت مؤخراً رؤية أفريقية سودانية تفسر الانفصال بهذا الخيار، أي الدولتين المنفصلتين وهما تدخلان في علاقة تكاملية أشبه بالعلاقات بين الدول في الاتحاد الأوربي. 3 كان موقف المعارضة من قمة الاستحقاق الديمقراطي، وهي الانتخابات التذبذب بين المشاركة والمقاطعة، وكذلك كان موقفها من الحكومة ذات القاعدة العريضة، بعد الانتخابات، التمرد بين المشاركة والمقاطعة، فهل كان التذبذب والتردد هما الموقف السياسي السليم في مواجهة تحديات المرحلة التي يتعلق بها مصير البلاد؟ لقد فقدت هذه الأحزاب البوصلة والاتجاه معاً، مع فقدانها الأهلية لقيادة البلاد بشهادة الرأي العام حتى قبل الانتخابات. 5 ومع ذلك تنادي المعارضة الآن بعقد مؤتمر جامع للقوى السياسية كافة في سبيل بحث قضايا الوحدة والانفصال قبل الاستفتاء بأقل من نصف العام، وكان الأجدر بها أن تتوجه بهذا الخطاب الوحدوي إلى الحركة، حليفها القديم الجديد، وذلك قبل فوات الأوان بأمد بعيد. لقد بذلت الحكومة أقصى ما في وسعها لتغليب خيار الوحدة، فنفذت وزاراتها القومية أكثر من «250» مشروعاً تنموياً وخدمياً بالجنوب، وظلَّت حريصة على التفاوض مع الحركة لتذليل العقبات أمام القضايا العالقة، وهي تخضع حتى أوضاع ما بعد الاستفتاء للتفاوض ، كما يجري الآن بين الخرطوم وجوبا، وهي مستعدة للقيام بمشروعات خدمية ذات عائد سريع فيما تبقى من زمن، وهي تخاطب الجنوبيين خطاباً رصيناً، يخرج بتقرير المصير من الإطار السياسي الآلي إلى إطار المصالح المشتركة ذات الاستدامة.. والله المستعان.