فكرة رائجة تبدو من أول وهلة كأنها (عصا موسى) في مواجهة مشكلة شائكة حيرت البرية. الفكرة هى إنشاء وزارة لهذا الغرض أوذاك، مما يكون سيطر على هموم الدولة والمواطن معاً.. ولكن سريعاً ما تتراجع الفكرة مخافة أن يكون إنشاء الوزارة تعقيداً للمشكلة، فتنصرف الجهود لشؤون أخرى جانبية ليزداد الطين بلة. وفى مصر التى ألغت وزارة الثقافة ذات يوم هتف بعض مثقفيها فرحاً (رب ثقافة بلا وزارة أفضل من وزارة بلا ثقافة!) قس على ذلك، فلدينا تجارب لوزارات ما بكى عليها أحد، وربما كان الوضع قد تحسن بغيابها.. التخطيط، التموين، الحكومات المحلية، التعاون، شؤون الجنوب، شؤون مصر، والإعلام لبعض الوقت، وهذا يعني أن فكرة إلغاء وزارات متاحة بل مفرحة متى تبين عدم جدواها مع أهمية اختصاصها، أو أن المستجدات في عصر ثورة التكنولوجيا أوجدت بدائل تخطيطية وتنفيذية وابداعية أجدى من الوزارة كجسم إداري مترهل وتقليدي، يستعصي رصد أثره وقياسه.. ولعل إعادة الهيكلة التى تجري فى هذه الآونة تأتي ببرهان عملي، على أن إلغاء بعض الوزارات له عائده بضمانات فرص العصر التي أوجدتها التكنولوجيا لإنجاز المهام بشكل أفضل، وأقل تكلفة وبأكثر الهياكل رشاقة. على كل حال يمكن اعتبار فكرة إنشاء وزارة جديدة لأي شأن مهم هي في المحك الآن وإعادة الهيكلة تجري، فضلاً عن مثال قريب وهو صرف النظر عن إنشاء(وزارة المستهلك) بولاية الخرطوم.. أضعف هذا الإتجاه القول بإن مشاكل المستهلك هى مشاكل الحكومة بكل وزاراتها، وهناك عوامل ضعف أخرى تواجه أية وزارة جديدة، من ذلك كساد نمط الهيكل المترهل الذي يوحي بأن الهدف هو التوظيف والإعاشة وليس الانتاج والربح والتنافس والجودة، كذلك تراجع بريق الإستوزار فى مقابل بروز مسميات أكثر بريقاً وأثراً للآليات والوظائف المتداولة بأجور مجزية فى سوق العمل، وقد أضحى عالمياً بفضل التكنولوجيا والعولمة، كذلك ظهور مسميات جديدة للآليات الحكومية أقرب لأنماط إدارة القطاع الخاص مثل مسمى (مفوضية) الذي شاع في الآونة الأخيرة كالموضة التي تخلب الألباب حتى أن جهات عديدة أصبحت تطالب بمفوضية بديلاً عن وزارتها، لكن الخواطر لا تنفك تربط بين إنشاء الوزارات والبحث عن دليل لإهتمام الدولة بأمر الجمهور، أو ينبىء عن تفكير خلوق يراود مهندسي التعديل الوزاري في ظرف سياسي اقتصادي معقد، يستجير بالحلول غير العادية، هذا (الظرف) يمكن أن يتمثل الآن في حاجة الدولة لمنح الأولوية لمطالب الجماهير المشروعة واعتبار ذلك أمراً استراتيجياً وحيوياً فى مقابل ما يحدث حولنا وعالمياً فى هذه الآونة التي تراودها رياح التغيير بعنف، حتى ليبدو الباب مفتوحاً لكل احتمالات الحلول من الإصلاح الى التغيير. حاجة الجمهور(حالة) لايمكن تجاوزها لمن يفكر في أي إصلاح أو تغيير أو كسب مواقع جديدة، فالجماهير هي سيدة الموقف بأكمله، كما نرى من سياق الراي العام الذي يتشكل فى هذه الآونة، حيث تطرح كل الآراء والمقترحات والسلع..حين أشتدت أزمة السكر خرجت الصحف بمقترح( وزارة للسكر)، ربما إحساس بأنها مشكلة نظم إدارية وطعن فى الكفاءات، وطريقة العمل وغياب التنسيق، وهو ما يتكرر في مواقع الخدمات التي يشكو منها الجمهور. كثيراً ما تكون الخدمة المدنية واقعة تحت تأثير هذه النظم الهيكلية والإدارية ونقصانها للمناعة الذهنية والتفاعلية.. لذلك وكإحتجاج على طريقة الأداء الحالية يدعو البعض لإنشاء وزارة جديدة فيكون المقصود أولاً الإحتجاج على قدرات الآليات الموجودة.. وثانياً الإحساس بأن شؤون المواطن جديرة بأن نديرها بطريقة فعالة، وهذا السياق يسمح بأن يخرج علينا من يطالب بتشكيل حكومة تتفرغ لخدمة المواطن وحل مشاكله، ليتسنى له(المشاركة) الفعالة في الإنتاج والتنمية عملاً بقول أهل العلم (الإنسان وسيلة التنمية وغايتها). متى استدعينا مشاكل المواطن في مصفوفة واحدة (الأسعار)، تدني الدخل، تزايد الخريجين، فاتورة العلاج، رسوم التعليم، المياه، العدالة الإجتماعية، الفقر، أوضاع المعاشيين، الخ.. نجد أن مسألة حكومة المواطن فكرة لها ما يبررها بين مبررات المناداة بتشكيل وزاري (مختلف) هذه المرة ينطلق من النجاحات السابقة، لا سيما في مجالات الطرق والإتصالات والإقتراب من الناس وتفقد أحوالهم، ودعم الخدمات الصحية، وابتدار مشروع التمويل الأصغر، ورعاية المتعففين والنوابغ، إلى غير ذلك، مما يعد تدريباً للإقتراب أكثر ومنح الأولوية المطلقة لمشاكل المواطن المنتج بتوازن مع الأولويات والإستراتيجيات الأخرى، حتى لا تصاب الحكومة المختارة في النهاية بلعنة الشعارات . فكرة (الجمهور) تتسع، فهو الشعب وارث السلطات، وعماد الدستور ثم هو المجتمع القائد الذي تغزلت فيه الاستراتيجية القومية الشاملة، بتوافق مع الفكر العالمي الحديث الذي يعول على حكومة المجتمع ومنظماته لتتفرغ الدولة للقضايا المتعلقة بالسيادة.. وأياً كانت تأويلات فكرة حكومة تخدم الجمهور ليشارك في مهامها فإن الفرصة مهيئة لتشكيل وزاري رشيق يفهم العصر ويلتزم بمرجعية، ويتجه بكلياته لمشاكل المواطنين التي استعصت على السابقين- شكر الله سعيهم- فما رعوها حق رعايتها من حيث أنها أولاً، بدليل النتائج . إن إنصاف المواطن وإعفائه من الشكوى (ليشارك) هو أساس التنمية والإستقرار الذي يشغل بال أية حكومة، لنعقد العزم على هذا فالمهم النية، نية القائم بالتشكيل، ماذا يريد من حكومة تولد فى هذه الظروف؟ إن قناعة أهل الصلاح والإصلاح هي(إخلاص النية وقليل من العمل يكفي).