ربما اعتبر الكثيرون قولة أوباما، وهو يشيد بانتصار الثورة المصرية في فبراير الماضي، بأن «شباب مصر ألهموا العالم»، هو من قبيل المجاملة أو المدخل الدبلوماسي إلى أبواب مصر الجديدة بعد إطاحة صديقهم العتيق الرئيس حسني مبارك، ولكن ماهي إلا شهور قليلة حتى انتقل هذا «الإلهام» قولاً وفعلاً إلى حقيقة تسعى بين الناس، فبذور الربيع العربي بدأت تمتد بجذورها عبر المحيطات وتطلع بعض فروعها وتتفتح أزاهيرها- فجأة وبلا مقدمات- في أهم مراكز الثروة والأعمال، في مانهاتن بنيويورك وولستريت تحديداً، ذلك الشارع الذي يمثل بؤرة النفوذ المالي والاقتصادي ، شارع واحد يحرك ويتحكم في حركة المال والأعمال، ليس في الولاياتالمتحدة وحدها، بل في مصائر ومعايش الناس أينما كانوا على كوكب الأرض، لأنه ومنذ أن وضعت الحرب الكونية الثانية أوزارها أصبح وولستريت المرجعية العليا والأخيرة في المنظومة الإمبريالية ومقر القيادة العليا «لقراصنة» الاقتصاد العالمي على حد توصيف جون بيركنز في كتابه «القرصان الاقتصادي» أو بعنوانه البديل «الاغتيال الاقتصادي للأمم»، والذي كنا قد استعرضنا فصولاً منه في هذه المساحة. ليس من قبيل المبالغة أن نقول بأن الرئيس أوباما أكثر الأمريكيين مفاجأة بالاحتجاجات الجماهيرية التي تفتحت أزاهيرها بشارع وولستريت في مانهاتن، فقد وصل أوباما إلى سدة الرئاسة في البيت الأبيض متسربلاً بشعار «التغيير» THE CHANGE ذلك الشعار الذي أثبتت الأيام وأكد أداء أوباما من على المقعد الوثير الذي امتطاه في تلك «الصدفة السعيدة» أنه لم يكن إلا من قبيل «الاستهلاك الانتخابي»، وكنا قد أشرنا في أكثر من «إضاءة» هنا إلى الخدعة التي ينطوي عليها، وأن أوباما إذا تمكن من إنجاز شعار «الإصلاح» REFORMATION في مركز الإمبريالية العالمية- الولاياتالمتحدة- سيصبح من الرؤساء والأبطال الخالدين، وها هو اليوم يتابع بنفسه سقوط ذلك الشعار الانتخابي وتشظيه قطعة قطعة بين أرجل الجماهير الزاحفة المطالبة بحقوقها في الإصلاح الاقتصادي وبفرص العمل، وأكثر من ذلك بالعدالة الاجتماعية ل99% من الأمريكيين في بلد يستأثر واحد في المائة، يمثلون تحالف رجال الأعمال والسلطة والأمن، بجل الثروة ولا يتركون لشعبه سوى الفتات ولقيمات بالكاد يقمن صلبه. ولكن كيف بدأت حكاية وولستريت التي أخذت تكبر مع مرور الأيام بمنطق «كرة الثلج»؟ بدأت بتظاهرة محدودة اتجهت إلى منطقة «يونيون سكوير» التجارية المزدحمة في قلب نيويورك منذ أكثر من أسبوع، حينها استخدم أحد قادة الشرطة «مسحوق الفلفل» ضد أربع نساء شاركن في المسيرة، وتماماً كما كان يحدث في «ثورات الربيع العربي» انتشر شريط مصور بهذه الواقعة على الانترنت، الأمر الذي أثار غضب محتجين كُثر توعدوا بمواصلة الاحتجاج إلى أجل غير مسمى، وحظيت الحركة في الوقت ذاته بدعم بعض نشطاء النقابات العمالية، من مثل اتحاد المعلمين ونقابة عمال النقل المحلية التي تضم 38 ألف عضو، كما بدأت تلك «الكرة الثلجية» تتدحرج باتجاه مدن أخرى لتنفجر احتجاجات مشابهة في بوسطن وشيكاغو وسان فرانسيسكو. يوم السبت والأحد تواصلت الاحتجاجات، واضطرت شرطة نيويورك لإلقاء القبض على أكثر من 700 محتج مناهض لوولستريت بتهمة «إغلاق طريق المرور ومحاولة تنظيم مسيرة غير مرخصة» بعد تمكنها من فتح جسر بروكلين، وذلك عندما خرجت مجموعة كبيرة من المتظاهرين في الاحتجاجات التي دخلت أسبوعها الثاني وتنظمها حركة «احتلوا وولستريت»، ونُقل أغلب المحتجين إلى مركز احتجاز قبالة الجسر وصدرت بحقهم «أوامر استدعاء» ثم أُطلق سراحهم.. هذا إجراء لا نرى له شبيهاً- طبعاً- بحق من يتم اعتقالهم في سوريا أو اليمن أو ليبيا القذافي أو مصر مبارك، فأولئك «يطلق سراحهم باتجاه المقابر» وليس أحياءً يستدعون للمثول أمام المحاكم.. وتلك بعض فضائل النظام الديمقراطي برغم المظالم التي تثير الاحتجاج وتغضب الجماهير العريضة. وفي بوسطن - شمال شرقي الولاياتالمتحدة- جرت مظاهرة مماثلة أمام مكاتب مصرف «بنك أوف أميركا» وتم توقيف 24 من المتظاهرين، وقال أعضاء حركة «الحق في المدينة» الائتلاف الذي يضم المجموعات المنظمة للتظاهرة إن ثلاثة آلاف شخص شاركوا في المسيرة، وأوضحوا أن التظاهرة تهدف للتعبير عن الاستياء من طمع الشركات الكبرى ووقف إغلاق المصارف. نعود لصديقنا جون بيركنز واعترافاته كأحد «قراصنة الاقتصاد» الأمريكي، وهي الاعترافات التي تردد لسنوات في نشرها، لأنها تعطي «من الآخر» وتكشف بشاعة المنظومة الإمبريالية التي تتحكم بموارد العالم وتعمل على اغتيال الأمم اقتصادياً عبر ذلك التحالف الإجرامي بين سلطة الدولة وأصحاب الشركات الكارتيلات الكبرى وأجهزة الأمن يقول بيركنز: قراصنة الاقتصاد هم رجالٌ محترفون ذوو أجور عالية، عملهم هو أن يسلبوا بالغش والخداع ملايين ومليارات الدولارات من دول عديدة في سائر أنحاء العالم. وهذه الحكاية يجب أن تروى، فنحن نعيش في زمن أزمات رهيبة وفرص هائلة- بيركنز كان يكتب قبل الأزمة العالمية الأخيرة- هي قصة كيف وصلنا إلى ما نحن فيه، ولماذا نواجه حالياً أزمات يبدو تخطيها صعباً؟ ويضيف: القصة يجب أن تروى بسب أحداث 11 سبتمبر، كذلك حرب العراق الثانية، ولأنه بالإضافة إلى الثلاثة آلاف شخص الذين ماتوا في سبتمبر على الإرهاب، هناك 24 ألفاً ماتوا من المجاعات وتبعاتها. وفي الحقيقة أن هناك 24 ألفاً آخرين يموتون كل يوم لأنهم لا يستطيعون الحصول على طعام لسد الرمق، والأهم من ذلك كله أن هذه القصة يجب أن تروى لأنه في هذا الوقت بالذات، ولأول مرة في التاريخ، هناك أمة وحيدة لديها القدرة والمال والقوة لتغير كل هذ، إنها الأمة التي ولدتُ فيها والأمة التي خدمت باسمها «كقرصان اقتصاد» إنها الولاياتالمتحدةالأمريكية. لكن المفاجأة التي ستلجم بيركنز، كما ألجمت أوباما - داعية التغيير- من قبل، هي أن «القرصنة» التي مارستها بلاده في جهات الكوكب الأربع لم تنقذ الأمة الأمريكية من الفقر والعوز، و ظل المال دُولة بين الأغنياء، وظل غمار الناس من الأمريكيين على فقرهم وبؤسهم، وتلك «الأمة الوحيدة» التي لديها القدرة والمال والقوة «للتغيير» لم تتمكن بفضل جشع الأباطرة المتحكمين بالثروة والسلطة من إقالة عثرة شعبهم ولو بجزء يسير من كل ذلك الذي نهبوه من موارد الشعوب الأخرى في آسياء وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوربا. ربيع وول ستريت الآخذ بالتفاقم، سيحرم أوباما المرشح لدورة رئاسية ثانية من رفع عقيرته مرة أخرى بنداء «التغيير»، الذي لم يتعد في عهده تغيير لون بشرة ساكن البيت الأبيض!!. تصويب ورد خطأ طباعي في إضاءة الأمس حيث جاء: التوافق أو الوفاق الوطني بين كافة القوى السياسية على صناعة دستور جديد كذلك الذي بشرت به «مجموعة الدستور» التي تعمل «برعاية «مجلس دراسات الامام». والصحيح هو «مجلس دراسات الأيام» ود. الطبيب زين العابدين عضو في هذه المجموعة الخيرة.. مع الاعتذار.