انتهينا بالأمس إلى تسجيل شهادة جون بيركنز -ضمن كتابه «الاغتيال الاقتصادي للأمم» فيما يتعلق «بالوصفة السحرية» التي ابتدعتها عبقرية التخطيط الإمبريالي الأمريكي، والمتمثلة في إنشاء وكالة التنمية الأغرب في التاريخ، والتي أطلق عليها اسم «اللجنة الأمريكية-السعودية للتعاون الاقتصادي» -JECOR- والتي تعتمد على أموال البترول السعودي لتمويل الشركات الأمريكية في بناء المملكة العربية السعودية في أكبر صفقة «احتكار» عرفها التاريخ، وهي الصفقة التي أطلق عليها بيركنز وصف عمليات «غسيل الأموال» السعودية. فبالرغم من أن جون بيركنز -كما سبقت الإشارة- كان خبيراً اقتصادياً أو «قُرصاناً»، بلغته، في خدمة الإمبريالية الاحتكارية الأمريكية العابرة للقارات وشركاتها وحكومتها ومؤسسات تمويلها الدولية، إلا أنه كمثقف اكتشف باكراً وأثناء عمله أن ما يفعله يرقى إلى مستوى الجريمة والخطيئة المدمرة لحلم الدولة الديمقراطية الذي نشأ عليه، وكما قال: إن «الإمبراطورية العالمية» مصدر أذى وضرر على الجمهورية، فهي تتمحور حول ذاتها وتخدم مصالحها وتتميز بالجشع والمادية، إنها نظام مبني على «المذهب التجاري»، هي مثل الإمبراطوريات السابقة تفتح ذراعيها فقط لجمع وتكديس مصادر الثروة وانتزاع كل شيء على مرمى البصر وحشو فمها النّهم الذي لا يشبع، إنها ستستغل أي شيء تراه ضرورياً لمساعدة حكامها للحصول على المزيد من القوة والثراء. كنت أدين بالولاء للجمهورية الأمريكية، لكن ما تقترفه من خلال هذا الشكل من الإمبريالية شديدة المكر والخداع، يساوي مادياً ما كنا نحاول إنجازه عسكرياً في فيتنام. فإذا كانت منطقة شرق آسيا علمتنا أن الجيوش لها حدود فيما تستطيع إنجازه، فإن الاقتصاديين ردوا على ذلك باختراع «خطة أفضل»، وكذلك وكالات المساعدة الأجنبية وأصحاب العقود الخاصة الذين يخدمونها (أو كانت تخدمهم إذا شئنا المزيد من الدقة) أصبحوا ذوي كفاءة عالية في تنفيذ تلك الخطة. أدرك بيركنز بعقله النقدي وحسه الصحفي مآلات الانغماس الشره والطمع الزائد الذي تمارسهُ بلاده وحكومته عبر تحالف الشركات الكبرى ومؤسسات التمويل الدولية، فقال: إنه بالإضافة للبعد الاقتصادي، كانت هناك أحبولة أخرى من شأنها جعل المملكة العربية السعودية تابعة لنا، لكن بطريقة جدّ مختلفة. ذلك أن تحديث مملكة البترول الغنية سيتبعها مجموعة من الأفعال وردود الأفعال. على سبيل المثال فإن ذلك التحديث سيثير حفيظة المسلمين المحافظين، كما ستشعر إسرائيل وغيرها من الدول المجاورة تهديداً. إضافة إلى ذلك فإن التطور الاقتصادي للمملكة سوف يتبعه في الغالب نمو صناعة أخرى، ألا وهي صناعة أمن شبه الجزيرة العربية، فالشركات المدنية المتخصصة في الصناعات العسكرية والهيئات الصناعية التابعة للجيش الأمريكي سوف تتوقع عقوداً سخية، وكذلك عقود صيانة وإدارة طويلة الأجل. ووجود مثل تلك الشركات والفنيين سيتطلب مرحلة أخرى من مشروعات الهندسة والبناء، بما في ذلك المطارات والقواعد العسكرية وإدارة الموارد البشرية وكل مشروعات البنية التحتية المرتبطة بمثل هذا المرفق، أي أن التوسع في الاستغلال سيأخذ شكل الانتشار السرطاني. الأمر -عندي- من وجهة نظر المملكة العربية السعودية كان ضرورياً، حتّمته الطفرة الاقتصادية والمالية التي صاحبت ارتفاع أسعار البترول، مثلما أملته العلاقات القديمة بين المملكة والولاياتالمتحدة والغرب التي تعود إلى ثلاثينات القرن الماضي عندما تم اكتشاف منابع البترول، لكن المشكلة تنبع من النوايا والممارسات الاحتكارية المتوحشة التي تبنتها الولاياتالمتحدة في التعامل مع السعودية ودول الخليج. فقد كانت التنمية والتحديث ضرورة وحاجة ملحة للسعودية وجيرانها للحاق بالعصر ومقتضيات الحياة المدينية. فالولاياتالمتحدة لم تتوانى منذ البداية في استخدام كل أدوات الضغط والترهيب المصحوب بالترغيب من أجل إنفاذ مخططها الرامي للانفراد والاحتكارية واستنزاف الموارد وتدوير الأموال بحيث تعود البترودولارات إلى الخزائن الأمريكية مجدداً. وفي هذا يخبرنا جون بيركنز: أن جمع المعلومات عن السكان من أجل هذه «المقاولة التاريخية» -يقصد مهمة اللجنة الأمريكية- السعودية للتعاون الاقتصادي المعروفة اختصاراً ب«جيكور»- استغرق وقتاً أقل مما يتوقع أي شخص. فقد كان على بيركنز وزملائه وضع تصور لخطوات التنفيذ. وليبدأو في خطوات التنفيذ تم إرسال مبعوث حكومي فوق العادة من أرفع مستوى إلى السعودية، في مهمة كانت على أعلى درجة من السرية، ولم يعرف بيركنز على وجه التحديد من كان ذلك المبعوث، لكنه يعتقد أنه كان هنري كيسنجر. أيَّاً من يكن ذلك المبعوث، فإن بيركنز يكشف أن مهمته الأولى كانت تذكير صناع القرار في المملكة بما حدث لجارتهم إيران عندما حاول رئيس الوزراء الأسبق محمد مصدق طرد الشركات البترولية البريطانية، وثانياً كان عليه تحديد خطة جذابة بحيث لا يستطيعون رفضها، وفي الواقع أن ينقل للسعوديين ضمنياً عدم وجود بدائل لديهم، ويضعهم أمام خيارين: إما القبول وضمان المساندة والحماية الأمريكية أو الذهاب في طريق مصدق،ويضيف بيركنز: حين عاد المبعوث إلى واشنطن، جلب معه رسالة فحواها أن السعودية استجابت لطلب الولاياتالمتحدة. كوفئت شركة مين -MAIN- للإنشاءات التي يعمل لديها بيركنز مقابل دورها الفعال في تصميم خطة التنمية الأمريكية في السعودية بعقد مربح من أعلى مستوى، وذلك تحت إشراف الخزانة الأمريكية، حيث كلفت بعمل مسح كامل للمناطق المحرومة من الكهرباء، والتي بها نظام كهربائي متهالك، وتصميم نظام جديد يضاهي نظيره في الولاياتالمتحدة. ولبدء العمل تم استئجار طائرة بوينج 747 لشحن المعدات وأدوات التجهيز من متاجر بوسطن إلى السعودية مباشرة. ويقول بيركنز إن هذه «الصفقة» أو «المقاولة» التاريخية غيرت وجه السعودية بشكل ملموس بين عشية وضحاها. حلت محل الأغنام مئتا شاحنة صفراء لامعة تضغط القمامة وتتخلص منها في يسر، بعقد بلغت قيمته 200 مليون دولار مع شركة «وست مانجمنت»، وبأسلوب مشابه كان تحديث القطاعات الاقتصادية في السعودية، بدءً من الزراعة والطاقة، وصولاً إلى التعليم ووسائل الاتصال. ويلاحظ بيركنز أن وجود اللجنة الأمريكية السعودية المشتركة (جيكور) وأسلوب عملها قد أرسى سابقة جديدة يحتذي بها في الشرعية الدولية فيما بعد. وكان هذا شديد الوضوح في قضية عيدي أمين، عندما نُفى ذلك الدكتاتور الأوغندي سيء السمعة في عام 1979، حيث حصل على حق اللجوء السياسي في السعودية، فاعترضت الولاياتالمتحدة من منطلق سجل أمين الأسود في حقوق الإنسان، لكن كان اعتراضاً هادئاً لم يتم الإصرار عليه خشية التأثير على ترتيباتها مع السعودية.أما الضرر الأفدح -كما يقول بيركنز- فكان الدور الذي سُمح للسعودية أن تلعبه تجاه «الإرهاب العالمي»، حيث غضت الولاياتالمتحدة الطرف عن التمويل المتدفق من السعودية على أسامة بن لادن في أفغانستان لمواجهة الاتحاد السوفيتي في ثمانينات القرن الماضي، وأسهمت كل من واشنطن والرياض معاً في إمداد «المجاهدين» بمبلغ قدره (3.5) مليار دولار، إلا انهما تجاوزتا ذلك الحد بكثير فيما بعد. ويورد بيركنز تقريراً لمجلة «فانتي فير» نشرته في أكتوبر 2003، باعتباره دليلاً جديداً على التعاون الوثيق والعلاقات السرية بين واشنطن والرياض، وتحدث التقرير الذي جاء تحت عنوان «حماية السعوديين» عن قصة العلاقة بين عائلة بوش والبيت السعودي من جهة وعائلة بن لادن من جهة أخرى. وأردف بيركنز أن تلك القصة لم تدهشه لأنه كما قال: كنت أعرف أن هذه العلاقات تعود على الأقل إلى زمن بدء عمليات الإنشاء والتعمير وتدوير أموال النفط في عام 1974، وإبان الفترة التي عمل فيها جورج بوش الأب سفيراً لواشنطن في الأممالمتحدة (71-1973) ثم حين أصبح رئيساً للسي آي إيه (76-1977)، الذي أدهشني فعلاً أن أصبحت الحقائق المجموعة أخيراً في متناول الصحف. كل ذلك، وغيره كثير، يقودنا إلى أن تنظيم «القاعدة» ككيان سياسي أو عسكري قد خرج من بين دم وفرث العلاقات المادية-الاقتصادية الشائكة بين واشنطن والغرب من جهة والسعودية ودول الخليج النفطية من جهة، فقد بدلت تلك العلاقات وجهة الحياة التقليدية المعهودة في المنطقة بشكل مفاجئ وأطلقت غضب القوى المحافظة الرافضة لنمط الحداثة الغربية من جهة والمستشعرة للغبن جراء مخططات الهيمنة والاحتكار والنهب المنظم من جهة ثانية. ومن هنا نشأ التناقض الذي أنهى أخيراً حياة بن لادن غيلةً وغدراً وخلافاً لكل المعايير القانونية أو الأخلاقية.