إن إعتبار مهنة الطب رسالة إنسانية فى المقام الأول أمر لا يختلف عليه إثنان، وقد عرفت بلادنا السودان البعد الأخلاقي في الطب منذ عهد مدرسة كتشنر الطبية (نواة كلية الطب جامعة الخرطوم)وقد عرف الخريجون الأوائل بتمسكهم بأخلاقيات المهنة وآدابها وأخلصوا وتجردوا بنكران ذات، بل كانوا قدوة يحتذى بهم على مستوى إفريقيا واجزاء كثيرة من بلاد العالم الثالث، وسمقت كلية الطب جامعة الخرطوم أن ذاك كمنارة علمية فى العالمين العربي والأفريقي، وسجل التاريخ المعاصر للمرحوم بروفيسور عمر بليل كأول من أجرى عملية جراحة كلي على مستوى العالم العربي والأفريقي بمستشفى الشعب بالخرطوم. أعقب هذا السمو تدهور مريع في مجال الخدمات الطبية، أهم مظاهره إهمال بعض الأطباء للسلوك الأخلاقي والإنساني، والتقصير المهني مقابل بيئة خدمية متردية في المؤسسات الصحية، تبدو جدلية السبب والمسبب... ماذا تسبب فى ماذا؟ هل إهمال الأطباء وتقصيرهم المهني أدى الى تردي بيئة المؤسسات الصحية؟ أم أن ضعف البنية التحتية من مستشفيات ونقص الأجهزة والمعدات قد أفشل مهمة ألأطباء وأشان سمعتهم ودعى بعضهم للهجرة خارج الوطن؟ لقد بلغت فواتير علاج السودانيين بالخارج أرقاماً خرافية فى الآونة الأخيرة، حيث بلغت فى الأردن فقط 500 مليون دولار فى العام الواحد. رفعت الدولة شعار توطين العلاج بالداخل فى محاولة تبدو جادة لمواجهة الواقع الصحي الماثل، وكانت أبرز مظاهر الخطة تتمثل فى: أولاً: إعادة تأهيل المستشفيات الكبيرة وإنشاء مستشفيات ومراكز صحية جديدة فى العاصمة والولايات. ثانياً: رصد ميزانيات ضخمة لاستجلاب الأجهزة والمعدات الطبية الحديثة فى مجال التشخيص وخدمات المرضى. ثالثاً: نداء للأطباء السودانيين فى دول المهجر للعودة للوطن وتسهيل إجراءات حصولهم على تراخيص لتوظيف خبراتهم ومدخراتهم لتطوير الخدمات الطبية. رابعاً: فتح الباب واسعاً لجذب المستثمرين فى مجال الخدمات الطبية. نتيجة لهذه الجهود تحسنت البيئة في المستشفيات نسبياً، وقامت مؤسسات صحية جديدة ومراكز طبية متخصصة أشبه بالفنادق الفخمة، واستجلبت العمالة الأجنبية بصورة ملفتة للنظر، ولكن للأسف لم يستقم الحال بل تفشت فى الآونة الأخيرة أخطاء طبية قاتلة، جعلت المجلس الوطني يفرد لها حيزاً فى التداول منتصف العام الماضي، وكذلك قام المجلس الطبي حينها باتخاذ اجراءات صارمة ومحاسبة عدد من الأطباء والاختصاصيين، وتم إيقاف بعضهم إيقافاً نهائياً عن العمل، حيث يعمل بعضهم فى المستشفيات الحكومية وآخرون بالمستشفيات الخاصة، وقد اشتملت الأخطاء - حسب ماورد \ الاعلام من تقرير المجلس الطبي وقتها- على التهاون وعدم الإنضباط فى أداء بعض الأطباء وضعف الكفاءة المهنية لدى البعض، بالإضافة لأخطاء اختصاصيي التخدير والممرضين فى إعطاء جرعات الأدوية الخاطئة، ويضيف بعض الخبراء وأهل التجربة، إن التعالي والثقة الزائدة التي يتوارى خلفها بعض أطباء السودان تجعلهم يكابرون ولا يعترفون بالأخطاء، ولا يحرصون على مشاورة زملائهم والاستفادة من تجارب كبار الاختصاصيين والإستشاريين، وعدم استصحاب آراء فريق العمل الطبي من المساعدين في معظم الحالات، بالإضافة الى قلة صبر الأطباء على المرضى، وعدم الاستماع الجيد لشكواهم، الأمر الذي يؤدي لكثير من أخطاء التشخيص بسبب القرارات المستعجلة، ويذهب البعض الى عدم مواكبة كبار الأطباء للتطورات المذهلة والنظريات المعاصرة في مجال الطب والانكفاء على المعلومات القديمة، وينسب البعض الأمر الى الضعف الأكاديمي والمهني لدى خريجي الجامعات الجديدة من الأطباء، بسبب ضعف مناهج التدريس، ونقص التدريب لنقص احتياجات المعامل، وضعف البيئة الجامعية عموماً. لقد أتاحت لي أقدار الله الغلابة أن أدخل شخصياً تجربة عملية بمرافقتي لإحدى الأقارب في رحلة علاجية للقاهرة بعد أن تعذر علاجها في السودان، وتضاربت تقارير التشخيص لعدد من الاختصاصيين ، حيث كانت المفاجئة المذهلة في القاهرة أن تشخيص الحالة أدى لإجراء عملية جراحية للمريضة لم تكن متوقعة. أتاحت لي رحلة القاهرة الاستماع لعدد كبير من ذوي الحالات المختلفة من السودانيين القادمين للعلاج بالقاهرة، أكدت لي صحة ما ذهبت اليه في صدر المقال، يبدو أن المحظوظين فقط هم الذين يتم اكتشاف الأخطاء الطبية تجاههم، ولكن أكثر الأخطاء يتوارى أصحابها تحت الثرى قبل إكتشافها، كما أن ضعف الثقافة القانونية والمطالبة بالحقوق والتعويض عن ارتكاب الأخطاء الطبية والعفوية والمجاملة السائدة في المجتمع السوداني تحول دون إشهار الشكاوى وإعمال الردع القانوني اللازم. وختاماً ربما يقول البعض إن مهنة الطب ليست بدعاً، فهي تتعاطى مع الأخطاء مثل غيرها من المهن، فالأخطاء الهندسية في الطرق والمعمار مشهودة، وأخطاء السياسيين والإداريين أكثر شيوعاً، ربما كان ذلك صحيحاً ولكن الأصح أن مبضع الجراح أكثر حساسيةً وأشد مسؤوليةٍ من ألسنة السياسيين وآليات المهندسين. تعالوا نبذل الجهد جميعا لاعادة الثقة \ الطبيب السوداني كمدخل ضروري لانجاح مشروع توطين العلاج بالداخل وتوفير مدخرات المرضى والعملات الصعبة للاقتصاد الوطني.