في زيارة عمل خاطفة إلى مدينة كسلا، حلقت بنا الطائرة فوق سماء المدينة نهاراً قبل أن تهبط في مطار كسلا، حيث تمكنا من مشاهدة كل من أطراف المدينة من أعلى بصورة واضحة، ولعل أكثر ما يجذب الانتباه تلك الخضرة الجميلة التي تكسو ربوع كسلا التي تحفها الجبال.. توتيل من جهة، ونهر القاش من جهة أخرى، ولا شك أن مدينة كسلا أكثر مدينة مخضرة في السودان، وبانتشار مزارع الفواكه والبساتين في معظم مرافق المدينة وبيوتها يمكن أن نطلق على كسلاالمدينة البستان. هبطت بنا الطائرة في مطار كسلا الكبير الذي استقبل أكبر أنواع الطائرات لما يحتوي عليه من المواصفات المطلوبة في المطارات الكبيرة- ولكن لا يستغل هذا المطار إلا بقدر ضئيل لا يتناسب مع التحضيرات التي أنشيء بها- كانت آخر زيارة لي لمدينة كسلا قبل ثلاثين عاماً لكني عندما تجولت في شوارعها وأحيائها وأسواقها أصبت بحسرة شديدة لما آلت إليه المدينة من تدنٍ في كل مظاهر الجمال والثقافة فيها. فالأسواق التي كانت نظيفة ومنظمة هي الآن تتكدس فيها الأوساخ بصورة واضحة، إلى جانب فوضى في الأسواق التي كانت غاية في النظام، أما الكارثة الكبرى في نظري ما قامت به سلطات الولاية من إزالة، بل مسح من الوجود لجميع المباني في أجمل الأحياء القديمة في السودان وليس في كسلا فقط، تلك كانت البيوت التي بنيت قبل أكثر من ستين عاماً على الطراز الفيكتوري البريطاني، وقد كان بعضها مساكن للوالي وعشرات البيوت لكبار الموظفين بالدولة، وبعضها اتخذ مقراً لكل الوزارات وكبرى المؤسسات الحكومية. أهل المدينة الذين التقيت بهم بمختلف طبقاتهم، هم في حيرة من تلك الحملة الجائرة التي أجبرت الشاغلين لتلك المباني على مغادرتها وفي لمح البصر زحفت الجرارات لتمسح من الوجود حياً بأكمله بما فيه من منشآت وحدائق وبساتين ومرافق أخرى، عبّر كل من قابلته عن استيائه لما حدث وأصبحت مجالس المدينة تتحدث بامتعاض عن ذلك الحدث ولكنهم مغلوبون على أمرهم. حدثني الفريق م. الجيلي أحمد شريف- الوالي السابق لولاية كسلا، حيث قال إنه كان يسكن في منزل الوالي الذي تم هدمه في هذه الحمة، وذكر لي أن مساحة المنزل 26 ألف متر، وهو مبنى في خارطة جميلة وعملية، ملحقة به حدائق غناء وبستان به كل أنواع الفواكه التي تزرع في كسلا البرتقال والقريب والنخيل والجوافة والليمون والقشطة والمانجو والرمان، وملحق بالمنزل استطبل لتربية الحصين، كما أن هناك حوض السباحة الوحيد في مدينة كسلا الذي شيد بمواصفات جيدة، وقال الفريق الجيلي إنه مكن الشباب في الأندية الرياضية من استعمال حوض السباحة بصورة يومية، حيث لا يوجد في المدينة غير هذا الحوض الذي يعتمد في امداده من المياه كما كل البيت، من ذلك البئر الملحق بالبيت. كل المباني التي أزيلت كانت ذات مواصفات مماثلة لبيت الوالي، وكلها مزينة بحدائق غناء وأشجار مثمرة، كانت هناك كل الوزارات تقريباً وعدد من مؤسسات الدولة، فأين ذهبت كلها؟.. إنه سؤال مشروع لكل مواطن دافع ضريبة في ولاية كسلا.. تعجبت عندما علمت أن الحكومة استأجرت عشرات المنازل متفرقة في أحياء المدينة المتباعدة، ودفعت المليارات من الجنيهات من أموال المواطنين لتكافئهم برفع إيجارات البيوت والمرافق في كل المدينة، إلى جانب المعاناة التي كان يكابدوها. المواطن يسافر من حي إلى حي وراء إجراءات حكومية كان يقضيها دون عناء، حيث كانت كل مرافق الدولة في حي واحد. إن ثقافة بناء العمارات والبيوت الزجاجية صارت وهماً كبيراً لتتطور المدينة، ليس فقط في كسلا لكن العاصمة الخرطوم ومعظم مدن السودان، ولعله كان أجمل وأكثر تحضراً أن تصان تلك البنايات الأثرية التي تعكس مرحلة من تاريخ المدينة، وكان يمكن أن تساهم منظمة اليونسكو في ترميمها وصيانتها.. وإن كانت هناك أموالاً فائضة واستثماراً أجنبياً في البناء، يمكن أن تتجه إلى أي طرف من المدينة، فالأراضي متوفرة لا تجد من يفلحها، فلماذا يا ترى غفل الناس من ذلك، إنها مسألة ترقى إلى مساءلة لمن قام بها حتى لا تتكرر في موقع آخر أو مدينة أخرى وكفى عبثاً بمقدرات البلد والمواطن. مدينة كسلا مؤهلة لأن تكون بستان السودان الكبير الذي ينتج كل أنواع الفواكه والخضروات التي تلائم طقس السودان، والمزارع الموجودة حالياً معظمها عفى عليها الدهر، وأشجار الفواكه فيها قد شاخت وتحتاج إلى إحلال بسلالات جديدة، واقترح على المسؤولين في النهضة الزراعية وفي ولاية كسلا، أن يعلنوا على الملأ نداءات للاستثمار في زراعة الفواكه والخضروات بصورة علمية ومدروسة لإنتاج أصناف بعينها من الموالح والمانجو والخضروات من أجل الصادر من مطار كسلا مباشرة، وطبعاً لا يتم نجاح ذلك إلا إذا كانت هناك جواذب للمستثمرين الجادين مثلاً توفر الأراضي بأسعار تشجيعية وتهيأ بمصادر الري، إلى جانب إعفاءات ضريبية وجمركية لكل المدخلات اللازمة، وأهم من كل ذلك توفير التمويل طويل الأجل، وإذا تم كل ذلك فسوف نرى كسلا بعد عشر سنوات أو أقل مثل كلفورنيا أو لبنان في إنتاج المحصولات البستانية.. إنها أمنية يمكن تحقيقها إن كانت هناك إرادة سياسية تعظم البستان على البنيات فهل من مجيب؟ ولقد تناقلت الأخبار زيارة متوقعة للسيد رئيس الجمهورية إلى مدينة كسلا خلال هذا الأسبوع، فلا أعتقد أن برنامج زيارته سيشمل الوقوف على حملة الإزالة التي هي الحدث الأكبر في الولاية، فأرجو أن يفطن مرافقو الرئيس لاطلاعة على الأمر، على الأقل لكي يصدر أوامر بإيقاف الاستمرار في مثل هذا التصرف ووقف القطع الجائر للأشجار من منطلق حرص السيد الرئيس على التشجير ونشر الخضرة في ربوع البلاد، علماً بأن الحي المزال لا زالت به عشرات أشجار النيم المعمرة الكبيرة الظليلة في انتظار الإزالة هي الأخرى إن لم تتحرك قوانين الغابات لحمايتها. أما أجمل الإشراقات التي رأيتها في زيارتي لكسلا، ذلك المنتجع السياحي الراقي سراي تمنتاي الذي قام بتشييده أحد أبناء كسلا البررة الأستاذ الشيخ درويش، وهو عبارة عن فندق في بستان من أشجار الفواكه المثمرة، به وسائل كل الراحة الفندقية بدرجة خمس نجوم، يدار بقدر كبير من التجويد واهتمام بالتفاصيل في توفير سبل الراحة والفندقة وسط بيئة طبيعية متميزة، إنه استثمار سياحي حقيقي رفع مستوى الفندقة والسياحة في مدينة كسلا التي تفتقر للنزل المطابقة للمواصفات، فليت كل ولايات السودان تقوم فيها مثل هذه الصروح السياحية من منتجعات، فالتحية للأستاذ الشيخ درويش على هذا العمل الجميل الحضاري المتفرد.