خطاب مبعوثي الوفد الكيني حول اعتذارهم بشأن قرار المحكمة الكينية القاضي بتوقيف الرئيس البشير في حالة تواجده في كينيا، كان درساً في الواقعة السياسية وفي الهوية السودانية والخصوصية السودانية والعمق السوداني والواقع السوداني. خطابهم كان درساً واعترافاً واعتزازاً بالسودان ، وياليت بعض المسؤولين والمعارضين في وطننا من رأسهم إلى كعبهم ، من أكبرهم إلى أصغرهم يتعلمونه ليدركوا أهمية هذا الوطن وهذا الشعب ربما كان ساهم في أن يلجموا تنكيلهم به وتفريطهم بالوطن! خطاب مبعوثي الوفد الكيني حمل أكثر من رسالة وأكثر من عنوان ، حمل رسالة إلى السودانيين ورسالة إلى جميع الدول وخصوصاً إلى أمريكا وحلفائها، ففي الشأن السوداني جاء موقف مبعوثي الوفد مميزاً ومبنياً على الاحترام الكلي للسودان وخصائصه ، فقد اختار الوفد تعابير تحمل كل المعاني، تعابير يعتبرها المعارضون هنا وهناك ممنوعة الاستعمال لأنها في رأيهم -ويا له من رأي سخيف- تتعارض مع موقفهم- الاسخف- الهادف إلى اذلال السودان وشعبيه.نعم الحديث الرسمي الذي سمعناه من الوفد الكيني، حديث مريح ، يحمل رسالة محبة إلى السودان ، محبة وتقدير وغيرة علي السودان لا غيرة منه ، حديث بنّاء للسودان لا حديث حقد وتدمير وتهديد وانتقام من الوضع الخاص الذي يتميّز به وطننا.علّ حديث مبعوثي الرئيس الكيني مواي كيباكي يضع حداً لمزايدات الكارهين والحاقدين على السودان هنا وهناك!.. كنا نتمنى أن نسمع حديثهم علي لسان المسؤولين عندنا ولاسيما علي لسان المعارضين السودانيين في الداخل والخارج الذين يتعاطون يومياً الشأن السوداني.وليس من شك أن الشعب السوداني رغم كل ما حصل، لا يزال معهم في قضيتهم ، ومع نيلهم حقوقهم واقامة دولة كينية مستقلة ، ولكن يجب أن يعرفوا أن الشعب السوداني سيعارض بكل ما لديه من قوة أي خطوة تُرافقها حملة تهديدات مبرمجة للسودان وشعبيه، وهذه المعارضة ليست فئوية، بل وطنية تشمل الدولة كذلك، وعليهم أن يفهموا أن السودان لا يمكن أن يوافق علي أي خطوة، أو أي(أمر واقع) قد يساهم في تنفيذ مخطط المحاولات التي تقف وراءها أمريكا وحلفاؤها.وهذه الرسالة موجهة إلى النظام الكيني-لا إلى الشعب الكيني لأن السودان ليس في حالة عداء معه-رسالة تؤكد أن وحدة السودانيين أصبحت حقيقة وواقعاً لا رجوع عنه، وكل محاولات لايجاد صداع داخل المجتمع السوداني ستسقط أمام وعي السودانيين بأن لا يُستعملوا أو ينجرّوا إلى فتن داخلية لخدمة المصالح الخارجية، وأمام إرادتهم واصرارهم علي مواجهة المحنة صفاً واحداً ، لذلك نقول أن المناورات من خلال قاضي المحكمة الكينية مرفوضة! واسمحوا لنا بأن نقول في هذا السياق للقاضي الكيني وقبله جوقة الغربان هنا وهناك! إن معلوماتهم عن الوضع السوداني وشعبه الداخلي غير دقيقة ومغلوطة، وكنا نتمنى عليهم أن يشاركوا المواطنين المسيرات الشعبية ليعرفوا تمام المعرفة أن الشعب واحد موحد وأن لا شرخ بينهم وأن مطالبتهم : كفى احتلالاً.. كفى ابتزازاً .. كفى ذلاً .. كفى وصايةً.. كفى استغباءً .. وكفى! أما علي الصعيد الداخلي ، فنقول إذا استمرت العمليات التخريبية داخل السودان فإن ذلك سيعني أن السودان سيُدفع في اتجاه المجهول الذي قد يؤدي إلى إعادة النظر في كل (الطرح الحالي) لمستقبله ، بما فيه وحدته الجغرافية والشعبية! لذلك يجب أن يعي كل من يشارك اليوم في عمليات التفجير داخل السودان أنه لا يساهم أبداً في تحريره بل يساهم مباشرةً في التعجيل في تمزيق نسيجه الوطني، وربما تقسيمه كيانات وتحويله كونفيديراليات ضعيفة الروابط تتبادل العاديات، من خلال حروب دموية لن يستفيد منها المواطن السوداني، بل يستفيد منها كل من يريد أن يستعمل أرض السودان ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية من خلال صب(الزيت الخارجي) علي النار الداخلية.ولا مجال للشك في أن هامش المناورة لدى أمريكا وحلفائها يضيق يوماً بعد يوم نتيجة السياسة الدولية تجاه السودان بعدما ضاقت حلقة الموالين وتوسعت حلقة المعارضين، الأمر الذي يحد حتماً من إمكان محاولة(خربطة) الأوضاع وافتعال إضطرابات في السودان بواسطة أدوات خارجية أو داخلية لتحويل الأنظار عن القضايا الأساسية من خلال إحداث(دفرسوار) سياسي يهدف إلى تصوير المشكلة كأنها محصورة في رأس الحكم بمعزل عن الملفات الأخرى المطلوبة معالجتها من تغيير الوضع السوداني برمته.في اعتقادنا أن المشكلة لم تعد محصورة بقضية رأس الدولة ، بل تخطت ذلك، وما هو إلاَّ استمرار لمحالة اغتيال السودان الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال، والسودان بكل مناطقه وكل تيارلته الوطنية يعتبر إن ذلك يهدف إلى ضرب السلم الأهلي وضرب الاستقرار ، وكذلك ترهيب وتيئيس كل من حاول أو يحاول في المستقبل أن يقول بصوتٍ عالٍ : كفى ذلاً واذلالاً ، كفى تبعية ، أننا نستحق أن نعيش أسياداً كراماً واحراراً في وطننا -حبيب الكل إلاَّ مَن أبى-!. نعم ، يزعجهم أي مشروع وطني يهدف إلى بناء دولة قوية تترسخ فيها الديمقراطية والحرية، كما يزعجهم أي مشروع يكرس استقلال السودان واستعادة عافيته ودوره ورسالته التي تتخطى حدوده الجغرافية! نعم خافوا من السودان كما يخافون من وحدة السودانيين التي قد تضع حداً نهائياً لسياسة الوصاية والتبعية، ولكن مهما فعلوا ، فالسودان أقوى من كل مؤامراتهم وأقوى من كل جرائمهم!هذا الحديث مُتفق عليه بين كل من يعنيهم أمر هذا الوطن..وإذا أنكرنا ذلك، أو تغافلنا عن أثره، أو استصغرنا نتائجه كنا كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمل وتظن أنها بذلك تخدع الصياد.. ومن هذه الثغرة تسود مجتمعنا اليوم حيرة.. وإذا دامت هذه الحيرة فليس وراءها إلاَّ الثورة، والثورة الهوجاء التي لا غاية لها، ولا ضابط ولا نظام ولا حدود، ولا تعقيب إلاَّ الهلاك والدمار والخسارة البالغة، وبخاصة في هذا العصر الذي لا يرحم، والذي تتجارى بأهله الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، وفي وطن كالسودان تتطلع إليه الأنظار وتتقاذفه المطامع في الداخل والخارج. وإلى متى ينظر أهل الرأي في السودان إلى هذا الصراع في غفلة وبَلَه وانصراف كأن الأمر لا يعنيهم، وكأنه يتناول بلداً غير بلدهم وأشخاصاً غير أشخاصهم؟..لا مناص لنا من أن نختار، وإذا لم نختر اليوم ونحن راضون، فسنقبل غداً - بل الغد القريب جداً- ونحن مرغمون وإني لأرى الوميض خلال الرماد ويوشك أن يكون له ضرام. لابد أن نختار لون الحياة الجديدة التي نحياها ولم تعد أوضاع الحياة الاجتماعية بكل نواحيها في السودان صالحة أمام التطور الجديد في الأخلاق والأفكار وحاجات الناس! وإن الدول الغربية تدرك هذا تماماً، فهي تشغلنا بأنفسنا، وتزيدنا حيرة علي حيرة، وليس في الوقت متسع للتردد، وإن تبعه من لا يعلم في عنق من يعلم ، ولا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم! وخلاصة القول:(خاص)للقاضي الكيني: أعلم أن منصبك إلى زوال ، لكن قرارك يُعطي الاستعمار الأوربي رأس جسر كان مفقوداً ليحتقر كل سيادات الدول الإفريقية وتذهب تواريخ التحرر والنضال الوطني التي خاضها الأسلاف إدراج الريح ويومها لا ينفع الندم(هدى بي يا قاضي هدى .. أنت ما بلتزمني حدي.. بس تشيلني وتودي.. شوف عجائب الدنيا كيف.. كيف بقينا بنحملة)!