تعود قصة هذه الواقعة الى العام الميلادي 1974م وهو العام الذي سافر فيه ابن عمتنا الحبيب هاشم عبد الله أحمد إلى مدينة دبي للعمل هناك، بدعوة من ابن خالنا العزيز العميد كمال حمزة الحسن ابو المعالي للعمل في بلدية دبي، التي كان يترأسها آنذاك الوجيه كمال حمزة، وبسفر الأخ هاشم عبد الله إلى مدينة دبي (فينسيا الخليج) أصبح منصب المدير الإداري لفرقة الفنان الشعبي الصغير في ذلك الوقت الكبير في الوقت الحالي، الأخ الأستاذ القلع عبد الحفيظ شاغرا، ولم يكن أمام الأخ الفنان القلع سوى الاستعانة بجهود العبد لله وأفكاره لقيادة الفرقة من موقع المدير الإداري، خلفاً للمدير الذي رحل الى ديار المهجر الأستاذ هاشم عبد الله أحمد، وحقيقة فقد تلكأت في أول الأمر لكي أعطي نفسي شيئاً من الأهمية، وأبرهن للأستاذ القلع بأني (رجل مش ساهل ولا أبحث عن المناصب وتحت إصرار الأخ الفنان القلع وافقت على العمل كمدير للفرقة، ومارست مهامي بكل همة ونشاط، واستطيع أن أقول بإنني وبشهادة الفنان الراحل أمير الأغنية الشعبية وفارسها الأول الأستاذ الفنان الفخيم محمد أحمد عوض، قد أحدثت شيئاً من التطوير والابتكار في فرقة الفنان القلع، وهو التطوير الذي سارت على نهجه عدد من الفرق الشعبية في حقبة السبعينيات الميلادية، حيث كنت صاحب قصب السبق في توحيد الزي لأفراد الفرقة بالصورة التي جعلت من مظهرهم العام انموذجاً ومثالاً يحتذى به، بجانب أنني قد ساهمت في نقل بروفات الفرقة من بيوت الأفراد الى مقر نادي العزوزاب، وفي فناء داره الفسيحة بعد أن ينفض سامر الرواد ويصبح النادي ساكناً يلفه الهدوء، لتبدأ عملية البروفات اليومية للتوقيع على الأغنيات الجديدة للفنان القلع. وليس هذا فحسب، بل أنني وبلا فخر قد لعبت دوراً بارزاً وكبيراً في تقنين مشاركة فرقة الفنان القلع في المناسبات العامة، والليالي الخيرية بالدرجة التي بات الفنان القلع عبد الحفيظ مطلوباً ومرغوباً فيها بصورة لم يسبق لها مثيل.. وقد مررت بموقف طريف ومحرج في نفس الوقت في إحدى الأعياد.. وعلى ما أذكر كان ذلك في عيد الأضحى، حيث جاءني أحد الرواد وتم الارتباط معه لحفل زواج احد أقاربه في مدينة النوبة جنوبالخرطوم، وهي مدينة حالمة تقع على ضفاف النيل، وبالفعل تم الاتفاق على كل بنود التعاقد، واستلمت العربون من ممثل العريس، وتحدد اليوم الثاني من عيد الأضحى كموعد لإقامة الحفل في تلك المدينة الحالمة، وكان أن امتطينا صهوة الحافلة التي ستقلنا الى مدينة النوبة، وسافرت البعثة بكل طاقمها باستثناء العضو علي حمزة بله، وهو عضو مؤثر في الكورال الذي يقف خلف الفنان القلع، حيث كان الاتفاق بيني وبين العضو علي حمزة بله بأن يأتي الينا من مسقط رأسه مدينة رفاعة الى مدينة النوبة مباشرة، وقبيل موعد الحفل بثلاث ساعات على أقل تقدير، ولكن فقد كانت دهشتنا كبيرة والفنان القلع يتأهب الى الصعود الى خشبة المسرح لتقديم الفاصل الأول في الليلة الغنائية، والعضو علي حمزة لم يشرف، وكان الغضب قد بلغ مداه عند الفنان القلع الذي أبى إلا أن يحملني المسئولية، بوصفي لم أقوَ على تجميع الكورال قبل بداية العمل، وكنت أهدئ من روعه وأسعى لتطييب خاطره، مؤكداً له بأن الأخ علي حمزه لن يخذلنا، وسيأتي قبل ساعة الصفر، ولكن الوقت يمضي ولا أثر للعزيز علي حمزة، فما كان من الأخ الفنان القلع إلا أن عزم على الدخول لخشبة المسرح دون أن ينتظر وصول سي علي حمزة، ولكنه قال لي وبالحرف الواحد أنت من سيحل بديلاً للعضو المتخلف علي حمزة، فقلت له كيف لي أن أعمل ككورس أو كورال مع أعضاء الفرقة، وأنا المدير الإداري الذي له هيبته ومكانته وصولجانه بين أفراد الفرقة، وكيف سيكون شكلي بعد أن أكمل الكورال وأقف جنباً الى جنب مع الشيالين، فمن سيسمع لحديثي وتوجيهاتي بعد ذلك؟ ولكن الفنان القلع قال لي ليس هناك حل آخر، وعليك أن تعتلي معنا خشبة المسرح لتكمل عقد الكورال، ولم يكن أمامي خيار آخر فتوكلت على الحي الذي لا يموت، واعتليت خشبة المسرح مع الكورال والشيالين، وأخذت القلع معهم وأدمي أكفي بالتصفيق، وأفعل كل ما يفعلونه ولكنني لاحظت وفي أكثر من مرة بأن الفنان القلع يغمرني بنظرات حادة، أحسست معها بغضب شديد بين نبراتها، ولكنني كنت أفوت على أمل أن تعدي الليلة على خير، وبعد نهاية الكوبليه الأول وفي غرفة تبديل الملابس أسف في غرفة الراحة بين الكوبليهات، قلت للفنان القلع لماذا تغمرني بتلك النظرات الحادة، وماهو ذنبي حتى تعاملني بهذه الطريقة الفجة؟ فما كان منه إلا أن قال لي بانك تمثل نشازاً في الفرقة، وكنت تلعب خارج الإطار أي أنني كنت في وادي وباقي الكورس في وادٍ آخر، فقلت له يا أخي أحمد ربك أنني تنازلت من كبريائي وتركت مهمتي الأساسية كمدير للفرقة، وأصبحت شيال بين عشية وضحاها، الأكثر طرافة في الأمر هو أنني قد طلبت من الأخ الفنان القلع عبد الحفيظ بأن لا يقل أجري عن ثلاثة جنيهات عن عملي كشيال في تلك الليلة، وكانت المفاجأة أن وافق الأخ الفنان القلع بلا تردد ومنحني الجنيهات الثلاثة قبل أن نصل لمسقط رأسنا العزوزاب، هذا طبعاً بخلاف أجري الرسمي كمدير للفرقة، ولكن دهشتي كانت كبرى عندما علمت في صبيحة اليوم التالي من أحد أفراد الكورال- ويدعى بلوله علي (أبو جبون)- حيث أكد لي بأن كل فرد منهم قد كان نصيبه عشرة جنيهات كاملة غير منقوصة، ولما سألته عن السبب قال لي بإن الشغل كان خارج العاصمة، وأي شغل خارج العاصمة بيكون ثلاثة أضعاف، وقد حز ذلك في نفسي كثيراً، فذهبت الى الفنان القلع وطالبته بباقي الفلوس، فقال لي خلاص ياعمي راحت عليك انت طلبت ثلاثة جنيهات واستلمتها بمحض إرادتك، فليس في الأمكان أفضل مما كان، ومن يومها التصق بي لقب مدير وشيال، إلى أن استقر بي المقام في أرض الطهر والنقاء المملكة العربية السعودية، كواحد من الطيور المهاجرة التي هجرت الوطن والأهلين والعشيرة والصحاب، بحثاً عن لقمة العيش الشريفة التي بات الحصول عليها في وطن الجدود ضرباً من ضروب المعاناة التي لاغرار لها.