قبل أن ننخرط في تمزيق كتاب الأستاذ المحبوب عبد السلام عن «الحركة الإسلامية السودانية: دائرة الضُّوء .. خيوط الظلام» إلى نتف ومزق، نسبر غورها تفصيلياً، يجمل بنا أن نعمد إلى إلقاء نظرة عامة إلى محتوياته، ونصف منهجه العام. ونجمل ذلك في النقاط التالية: (1) انطلقت رؤية الكاتب من منظور متسع، فاستوعب قضايا عديدة عن التنظيم الإسلامي، والنظام السياسي،والحُكم الاتحادي، والجنوب، والجهاد، والجيش، والاقتصاد، والسياسة الخارجية، وغير ذلك مما اشتبك بذلك. ومهد الكاتب لهذه الفصول بفصلين طويلين، خارجين عن نطاق العشرية موضوع البحث، أفاض فيهما بالحديث عن تاريخ الحركة الإسلامية، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حملا عنواني: «المصالحة الوطنية» و«الجبهة الإسلامية القومية». وإذا كان الكاتب قد ظن أن اتساع موضوعات كتابه أمر سلبي، فقال:عيبٌ آخر من عيوب هذا الكتاب الكثيرة، هو سعة مساحة البحث التي يتناول مواضيعها. فإنا نرى أمراً إيجابياً، يشير إلى اتساع أفق المؤلف، وشمولية نظرته إلى حد كبير، ويشي بعمق وعيه بالوشائج التي تربط بين القضايا السياسية المختلفة. ويمكن أن نقرر بغير تحفظ أن اتصاف كتاب بهذه الصفة يجعله أشمل مرجع تناول هذه العشرية من تاريخ السودان الحديث. ويمكن بالتالي أن يتخذ مرجعاً أولياً لمن يحاولون الكتابة مجدداً في تاريخ هذه الفترة المتوترة من تاريخ بلادنا، حيث وضع المؤلف مادة كبيرة في يد المؤرخين. وليس ضرورياً بالطبع أن يقبل المؤرخون الجدد مادة الكتاب على علاتها، وإنما يمكن أن يبنوا عليها وإن هدموا بعضها. (2) والمنهج الذي اقتفاه الكاتب هو المنهج التاريخي التحليلي، وهما في الحقيقة منهجان، لكن يمكن اتباعهما معاً. الأول يقوم على وصف الحوادث التاريخية مرتبة ترتيباً زمنياً أو موضوعياً، أخذاً عن المشاهدات العيانية أو الوثائق النصية. والثاني يقوم على تفكيك الحوادث التاريخية للنظر إليها من داخلها، والتعرف على العوامل التي أنتجتها، وتحديد آثارها في مسار التاريخ. وقد أخطأ الكاتب عندما سمى منهجه بأنه: منهج تأملي نقدي. فلا يوجد في مناهج البحث العلمي الاجتماعي والإنساني ما يسمى تخصيصاً بالمنهج التأملي النقدي، لأن كل مناهج البحث هي كذلك، ثم تتمايز بعد ذلك. (3) اتسمت كثير من نظرات المؤلف بالطابع الذاتي، وهذه صفة سلبية لكتابه. ولا يشكل إطلاقنا هذه الصفة على الكتاب تعارضاً مع الصفة التي أسبغناها عليه سابقاً. فاتساع النظر المعرفي يمكن أن يصطبغ في بعض الأحيان بالتحيز العاطفي، فيرى المؤلف أشياء متعددة، متشعبة، متكاثرة. ولكنه لا يراها على حقيقتها، وإنما يراها كما يحب أن يراها، أو كما يريد أن يراها. وكثيرون ممن سجلوا صفحات من تاريخ الفترات المتأزمة من تاريخ بلادنا، فعلوا الشيء نفسه، فتورطوا في التحيز الذي شان كتاباتهم. ويمكن النظر في أمثلة هذا إلى كتابات مؤرخين كبار اتسموا بالنظر الواسع، والاقتدار على التسجيل الجزيل، ولكن شابت كتاباتهم تحيزاتهم القوية لبعض أطراف الصراع، كما فعل نعوم شقير في كتابه «تاريخ وجغرافية السودان»، وكما فعل سلاطين باشا في كتابه «السيف والنار»، وكما فعل إبراهيم فوزي في كتابه «السودان بين يدي كتشنر وغردون». (4) حرر الكتاب بلغة فصيحة عالية، فجاء في مستوى أسمى مما يكتب أكثر الكتاب العرب في هذه الأيام، حيث استخدم المؤلف لغة صافية خلت من التواءات الهجنة ورواسب الترجمة. وقد احتذى المؤلف قاموس الترابي اللغوي، وصيغه الصرفية، واقتبس الكثير من مفرداته التي تفرد بها عن بقية الكتاب، ورغب في تركيب العبارات على طرازه، ولاسيما في الطريقة التي حرر بها كتابه الأخير «السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع». ولكن يظل الفارق بين لغة حسن الترابي ولغة المحبوب عبد السلام بيناً، كما هو الفارق بين الكحل الطبيعي والتكحل المصطنع. وهذا الفارق يمكن إجماله في ميل الترابي إلى الاقتصاد في التعبير، وإحكام اللفظ وضبطه بقدر المعنى، وميل المحبوب إلى الاسترسال، والإسهاب في إيضاح ما لا يحتاج إلى شرح من البدهيات، والتطويل في إيراد التوطئات غير اللازمة. وقد أثار اطلاعنا على كتاب المحبوب هذا بعض الريب والاشتباه في أن يكون هو الذي قام بتحرير كتاب الترابي «السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع» الذي قرأناه قبل سنوات، وساءنا ما حشي به من إطالات وإيضاحات غير معهودة في كتابات الترابي القديمة، الأمر الذي أحاله إلى نمط الكتابات الأكاديمية الباردة، وأبعده عن نهج الأدبيات الفكرية الإحيائية النهضوية.