كثيراً ما نبهنا من خلال المنابر السياسية والدعوية والاجتماعية كافة.. وكثيراً ما حبرنا الأوراق لافتين النظر لمخاطر انفصال الجنوب المحدقة، ودعونا لبذل الجهود الرسمية والشعبية والنوعية، في المجالات السياسية والفكرية ومراكز صناعة الرأي العام للحيلولة دون وقوع الفأس في الرأس، ذلك لأن مخاطر انفصال الجنوب أكبر وأعظم من يقابلها مكسب من ذهاب الجنوب بتقرير المصير. لقد أشرنا وقتها إلى أن من أكبر المخاطر على الإطلاق هي تعرض الأمن القومي السوداني لتحديات جمة بسبب توظيف النظام الاستعماري الجديد والصهيونية الماكرة لدولة الجنوب الوليدة التي سعت لرعايتها نطفة ومتابعة كافة مراحل نموها وتخلقها حتى خرجت للوجود. إن أمريكا والصهيونية الناشطتين هذه الايام لاستكمال الخطط العسكرية وبناء القواعد الإستراتيجية الحربية وبناء أقوى جيش لدولة الجنوب في قلب أفريقيا محاذاة لأطول شريط حدودي مباشر مع السودان.. فالسودان الذي ابتلع الطعم بسذاجة بالغة فذهب نصفه في غفلة فاجأت كل المراقبين ينتظره اليوم الاستعداد لمزيد من ذهاب الأنفس والثمرات وتمزيق الأوصال، السودان الذي طالما ادعى تكفله بإقامة المشروع الإسلامي الأنموذج بالمنطقة، وطالما هتفت طلائعه «الأمريكان ليكم تسلحنا.. خيبر حيبر يا يهود جيش محمد بدأ يعود»، السودان الذي ذكرت كتائبه الجهادية بماضي الإسلام الأول وميراث دولة المهدية المعاصر.. إن العدو الغربي شديد الرصد وعالي الحساسية في هذا الاتجاه ولا ينسى كما ينسى الآخرون. إن الفرصة الذهبية التي يتلقفها العدو اليوم لم تهبط عليه من السماء فجأة، ولكنه رسم خطتها ووضع تصوراتها ويحصد اليوم ثمراتها وفق برنامج ما يسمى بالنظام العالمي الجديد الذي اعتمدته أمريكا وشرعت في تنفيذه في الشرق الأوسط وأفريقيا بعد أن تخلصت من ندها التقليدي، الاتحاد السوفيتي.. البرنامج الذي يدعو لإقامة إمبراطورية أمريكية تتجاوز الأُطر الدولية وتفرض رأيها على الآخرين اعتماداً على قوتها العسكرية والاقتصادية.. تقوم هذه الأمبراطورية على افتراض تفوق الأمة الأمريكية رائدة الرأسمالية التحررية الجديدة ونظام السوق الحر باعتبارها النظرية الأنسب لكل الأمم، وأن التراث اليهودي هو الذي يمجد الرب، بينما رب الآخرين هو الضلال!! إسرائيل بالنسبة لأمريكا هي تجسيد إرادة الرب وأن أمنها وبقاءها في مواجهة المتوحشين العرب والمسلمين تضمنه الولاياتالمتحدة. إن المنظمات الصهيونية ظلت ترغب دائماً في توظيف السياسة الأمريكية في البلاد العربية والإسلامية لصالح إسرائيل، وتعمل هذه المنظمات على الصعيدين الرسمي والشعبي، وذلك للإبقاء على القرار الرسمي الخاص بإسرائيل متماشياً مع الموقف الشعبي.. وقد نجحت هذه المنظمات عبر سنوات في تعزيز مواقفها من خلال المسيحيين المتصهينين الذين يدافعون عن إسرائيل أشد من الصهاينة أنفسهم.. هؤلاء هم مفكرو البيت الأبيض الآن وهم أنفسهم القوميون المتعصبون، وهم الذين يدفعون بشدة باتجاه ملاحقة العرب والمسلمين، وهم الذين دفعوا نحو احتلال العراق الذي أصبح مثالاً شاخصاً أمام العالم للهيمنة الأمريكية.. فأصبحت إسرائيل أكبر المستفيدين من اجتياح العراق الأمر الذي أتاح لها التغلغل والوصول إلى نهر الفرات تحقيقاً لإستراتيجيتها المعلنة «من الفرات إلى النيل». انتهى أمر «الفرات» وجاء الدور اليوم على «النيل»، ونذكر بأن إسرائيل قد أقامت احتفالاً رسمياً وشعبياً بقرار الأممالمتحدة رقم «1706» الذي قضى بإدخال قوات دولية من بوابة مشكلة دارفور وفق الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، ثم تطورت الأحداث وتسارعت لصالح أحلام إسرائيل بعد انفصال الجنوب لتكون زيارة سلفاكير رئيس دولة الجنوب لإسرائيل قبل يومين عبارة عن شكر رسمي على الجهود المقدرة التي قامت بها إسرائيل لإنجاح خطة الانفصال في إطار برنامج النظام العالمي الجديد الذي تقوده أمريكا وقد سبقت الإشارة إليه. وتأتي زيارة سلفاكير لتل أبيب إشهاراً مستفزاً للعلاقة مع دولة إسرائيل ونقلها في هذا التوقيت الدقيق من مرحلة السرية إلى العلن. إن تأكيد الاستهداف الاستعماري الضخم الذي يتعرض له الوطن منذ فجر الاستقلال لا يحتاج لكبير عناء فكل شيء في السودان يغري حقيقة بطمع الأعداء.. فالأرض شاسعة وخصبة والمناخات متنوعة وجاذبة والأنهار عذبة جارية والثروات في سطح الأرض وباطنها باذخة، والموقع الجغرافي فوق الإستراتيجي. إن الغرب الذي يسرع في استكمال حلقات استهدافه للوطن هذه الأيام، قد غرس خنجره المسموم في خاصرة الوطن باكراً وهو في طريق الخروج قبيل الاستقلال، فكانت بداية الشرارة مشكلة الجنوب ليظل الوطن غارقاً في أتون حرب أهلية طويلة أربكت كل الخطط الوطنية وأفسدت النسيج الاجتماعي وأبطأت البرامج الخدمية والتنموية والأهداف الإستراتيجية والوطنية منذ منتصف القرن الماضي حتى أذن المجتمع الدولي أخيراً باتفاقية نيفاشا الشائهة التي مكنت العدو من التقاط أنفاسه وإنقاذه من هزيمة وشيكة على يد الجيش السوداني والمجاهدين من أهل السودان، فمضت سنوات تعافى فيها العدو وتغذى من ثروات الأمة ومال الدولة وخبر ميدان المعركة عن قرب وتعرف على حجم العتاد الوطني والبرامج الإستراتيجية العسكرية ومارس الخداع مع القوى السياسية بما فيها شريكه المؤتمر الوطني الذي غاب وعيه في أحلام الوحدة الجاذبة الوردية حتى إذا أفاق الآن وجد الجنوب طفلاً مدللاً في كنف حاضنته إسرائيل.