ولدت بحي شعبي جداً بالخرطوم، وكنت ابن أسرة عادية.. وكنا مجموعة من أولاد الحي في نفس السن ونفس المراحل الدراسية، نلعب الكرة مع بعض، ونذهب لزيارات الأصحاب مع بعض، ولا نفترق إلا قليلاً، وكنا نحب بعضنا البعض حباً مبالغاً فيه، لا نعرف أن هذا جعلي أو هذا رباطابي أو هذا شايقي أو دنقلاوي أو نوباوي أو حلفاوي، وليس بيننا أي حواجز، ولا أي شيء يكدر صفو تلك الصداقة. وفجأة تقلد والدي منصباً كبيراً وليته لم يتقلد هذا المنصب، تغير الحي وصارت هناك حراسات للباب، ومنع للزوار، وصار اختلاطنا بالناس قليلاً، وأجبرت على عالم لم أعرفه بحجة أن هذا ليس بمستوانا، وصار أصحابي يتحاشونني، ويقولون لي أنت وين ونحن وين، كأن لي ذنباً في هذا، وصار كثير من الناس- وما أن يعرفوا أني ابن صاحب ذلك المنصب الكبير- إلا وتتغير المعاملة، ولا يعاملونني بعفوية أبداً، بل أحس بالتملق والابتسامات الزائفة. أصبح لأسرتي عالم، وأنا لي عالم آخر أعيشه، وما أن أجبر على مجاراتهم في عالمهم إلا وازدادت لهفتي لعالمي -عالم المساكين والفقراء- ولا يعجبني أبداً أكل الصالات الفاخرة، ولا المطاعم الراقية، بل أحن للبوش وسندوتشات الطعمية، وأحياناً لفتة الكوارع مع أصحابي. أنا ممزق، أنا تعيس، أنا معذب، ليت والدي لم يتقلد ذلك المنصب أبداً. وليتنا كنا ناس مساكين زي حاج حسين وأولاد أب كوع، لا أدري يا شيخنا أحابيهم واندمج في عالمهم كالمسخ أو ابتعد عنهم نهائياً، وارجع إلى عالمي.. قل لي كيف المخرج اسأل لي الله إني اتعذب استخير لي ارشدني ما العمل.. قلت: الله يسدد خطاك ويدلك على ما فيه الخير لك ولأهلك. وقلت: كان رسولنا صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم.. ورغم أن الدنيا قد راودته عن نفسها، أن تكون له ذهباً فرفض، وقال اللهم أجعلني مسكيناً، واحشرني زمرة المساكين.. قلت ما أتاكم به الله فهو نعمة من نعم الله عليكم، يجب تستغل في نفع الناس وقضاء حوائجهم وطلب مرضاة الله بذلك. قلت: يبدو أن والدك رجل طيب من كلامك عنه، وأنه فعلاً يستحق ذلك المنصب، ولعل مشغولياته وارتباطاته قد حصرته في ذلك العالم الذي لا تحبه- أطلب منه أن يزور معك أصحابك وأسرهم، في الأمور التي تستوجب الزيارة والمجاملة، كالزيارة في المستشفى، والعزاء، والسمايات، والتهنئة بالزواج، والتخرج، وحضور جلسات التلاوة الاسبوعية معهم، وتناول اللقيمات والشاي الأحمر، وهكذا صار والده في ارتباط دائم، ووجد ترحيباً حقيقياً وليس زائفاً، ووجدهم في منتهى العفة، وحامدين وشاكرين على حياة الكفاف. وهكذا تحول والده إلى نصير متحمس للفقراء والمساكين، وصار يضرب به المثل، والابن انغمس في عالمه الذي يحبه إلى النخاع بل تزوج منهم، وكان والده من أشد المتحمسين لذلك، وكانت العروس آية في الجمال والأدب والأخلاق، وكان يقول لوالده دائماً هل تكرمت وزرت معي شيخي وشيخك.. قال تعالى: «ومن يتق الله يجعل له مخرجا» سورة الطلاق الآية «2»