قطعاً ما كان أحد يتمنى أن ينفصل الجنوب، وما كان أحد يتخيل ذلك، ولكن موضوع الانفصال بالطبع قد أصبح الآن ليس موضوعاً للنقاش، لأن الزمن قد تجاوزه وباركنا لهم اختيارهم وانصرفنا نجهز أنفسنا لمواجهة النتائج الاقتصادية والسياسية والأمنية، وقد تجاوز أهل السودان الآن صدمة الانفصال بعد أن كاد اليأس يدب في النفوس بسبب الوضع الاقتصادي المتوقع، وقد زاد ذلك تصريحات بعض المسؤولين الذين أصيبوا هم أنفسهم بصدمة تشاؤمية، ولكن مع بداية تجاوز الأزمات الناتجة عن الاتصال وعلى وجه الخصوص الأزمة الاقتصادية، عاد الهدوء والاطمئنان للسكان نتيجة للإجراءات التي أتخذت للمعالجات، ورغم أن هلع الانفصال قد صاحبه تصاعد سريع في الأسعار وفي وسائل وسبل الحياة، إلا أن الإجراءات التي أتخذت خاصة في ولاية الخرطوم، كانت كفيلة بأن توقف التصاعد إن لم تستطع التخفيض، ورغم تجربة أماكن البيع المخفض المختلف عليها، لم تؤدِ واجبها حسب المخطط لها، إلا أنها قد ساعدت في تثبيت الأسعار وتطمين المواطنين بعض الشيء. أما تداعيات الانفصال الأخرى فهي معروفة خاصة في المجال الأمني وما صحب ذلك في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق ولكن الحسم الذي تم كان هو الفيصل ولا طريق خلافه. أما سياسياً فإن الأمر يبدو متأرجحاً، فلا أفهم أن يكون هناك فرع لحزب سياسي من دولة أخرى في السودان وهو ما يعرف بقطاع الشمال، بل لا أفهم أيضاً أن يظل التردد قائماً نحو هذا الأمر وإن كان الموضوع قد حسم تلقائياً عقب أحداث النيل الأزرق. هذا الحديث الذي أشرت إليه حول تداعيات الانفصال، أردت أن أصل من خلاله إلى أن هناك أمراً مهماً آخر ارتبط بالانفصال، ولم أرَ أي إشارة إليه مطلقاً، وهو أمر الأيدي العاملة، لا يخفى على الجميع أن الجنوبيين كانوا يمثلون نسبة عالية في العمالة اليدوية، وأنهم ظلوا أصحاب خبرة في عدة مجالات خاصة في أعمال البناء والتشييد، فلا شك أن معظم عمارات ومباني العاصمة قد شيدها الجنوبيون كبنائين ونقاشين وخبراء بياض ثم أيدي عاملة كطلب. إن مشهد العمال الجنوبيين وهم يواصلون العمل في تشييد العمارات تحت حرارة الشمس الحارقة، صورة لا ينكرها أي منا، لقد حدثني أحد الأصدقاء بأنه فشل في إيجاد عمال مهرة ليقوموا بعملية البياض لمنزله تحت التشييد، وقد ذكر لي أن الأسماء اللامعة في هذا المجال كلها كانت من الجنوبيين، وأن دخول آليات البناء الحديثة قد قلل بعض الشيء من الاعتماد على الأيدي العاملة، إلا أن الحاجة لهم مازالت مطلوبة، وبهذه المناسبة ما زالت صورة أخواننا الجنوبيين وهم يقومون في مواسم الخريف بفتح المجاري الترابية في كل أنحاء العاصمة، ولكن في هذا الجانب فإن سياسة رصف المجاري وتغطيتها قد أضعفت الحاجة للعمالة اليدوية. إن وزارة الداخلية وهي تعلن أن أبريل هو آخر فرصة لتوفيق الجنوبيين لأوضاعهم، وأن نائب رئيس الجمهورية الحاج آدم يعلن عن حصر الجنوبيين وتشجيع عودتهم وتسهيل أمرهم.. لابد أن نضع في الاعتبار أن العمالة الجنوبية لا تعوض، واقترح أن يتضمن توفيق الأوضاع تسهيلات معينة لتمكين هذه الأيدي العاملة من البقاء أو تشجيع عودتهم للسودان، بالنسبة لأولئك الذين غادروا أنه ليس عيباً أن نفتح الباب لاستقطاب العمالة، فإن هناك دولاً كثيرة ومتقدمة لا تغلق الباب أمام العمالة الوافدة ولا يتحرجون من ذلك، لأن وجود هذه العمالة الجنوبية يساعد في استمرار أعمال البناء والتشييد وبالأسعار المناسبة. والأمر موكول لوزارة الداخلية وللجهات المسؤولة بالدولة بأن لا نضع أي رد فعل لعلاقة الجنوب الفاترة مع الشمال وهي تقنن ضوابط توفيق الأوضاع.