الحمد لله كثيراً أن الناس بدأوا يكتشفون أن ثروات وطنهم السودان تحت أقدامهم، وفي متناول أيديهم، وآخر مثال لذلك هو التنقيب عن الذهب عشوائياً وبلا انتظار لأي جهة حكومية. وفي هذا الصدد أثار اعجابي واعجاب الكثيرين التصريحات التي أدلى بها في الأسبوع الماضي وزير المعادن د. عبد الباقي الجيلاني، حيث قال بالحرف: إنه تعهّد لمواطني سروبية بمحلية هيا بالبحر الأحمر، بالتنقيب العشوائي للذهب بالمنطقة، بتخصيص مناطق محددة لهم للتنقيب، حفاظاً على حقوق الشركات العاملة في المجال، وقال مطمئناً إياهم إن زيارته لا تهدف إلى نزع خبرات المنطقة منهم وإنما لوضع خطط وبرامج لتوفير الخدمات الأساسية بما فيها الصحة والتعليم والمياه بالتنسيق مع حكومة الولاية. وامتدح الوزير دور الإدارة الأهلية بالمنطقة في تنظيم عمليات التنقيب وحفظ الأمن، كما طالب بارجاع صغار السن إلى المدارس وجعل التنقيب حصرياً على الكبار، فيما طالب معتمد هيا إبراهيم طاهر بدعم المشتغلين عشوائياً بالوسائل العلمية والتكنولوجية المتقدمة. وقبل ذلك أدلت خبيرة في علوم البيئة بتصريحات مهمة دعت فيها إلى اتخاذ الاجراءات اللازمة لمعالجة الآثار الصحية الناجمة عن عمليات التنقيب العشوائي وهو أمر- بلا شك - ممكن وإلا ما فائدة علم لا ينفع الناس، أو يظل مجرد شهادة يتباهى بها أصحابها أو يعلقونها على صدورهم وكأنها غاية الأماني وكفى. وأتصور أن باقي الولايات التي يتدافع فيها المواطنون للتنقيب سوف تحذو حذو سروبية بمحلية هيا، كما أتصور أن على رأس دواعي هذا التدافع هو رغبة الناس المشروعة في تحسين واقع حياتهم بما هو أفضل، ولا يتأتى ذلك إلا بحصولهم على «رأسمال» لا يمكن استثماره في مجالات إنتاجية أو خدمية خاصة أن مقدار هذا التمويل لا يتيسر لهم حصوله من البنوك أو لأن طموحهم أكبر من التمويل الأصغر الذي تقدمه البنوك أو لأنهم يفضلون الاعتماد على تمويل من حُر مالهم وعرقهم يجنبهم التعرُّض لعدم القدرة على تسديد الأقساط. ومما لا شك فيه أن السودان، على الرغم من ما يتمتع به من موارد طبيعية هائلة إلا أن هناك بطالة لا ينكرها أحد، ومن هنا لا بد أن نفتح مجالات جديدة للتجربة الشعبية الناجحة في التنقيب عن الذهب لمكافحة الفقر والبطالة على المستويين الشعبي والرسمي، فهناك ثروات أخرى بانتظار تجارب مماثلة لتجربة التنقيب عن الذهب. ففي مجال الثروة السمكية في البحر الأحمر وفي الأنهار أليس من الأهمية بمكان التوسُّع في تمليك صائدي الأسماك مزيداً من القوارب والشباك وتسهيل أمر الترحيل إلى مواقع الاستهلاك وما أكثر الأسماك في البحر الأحمر وفي النيلين الأبيض والأزرق وفي بحيرة النوبة بمنطقة حلفا، بدلاً من الاستيراد من كينيا وأوغندا وفي مجال الزراعة عرف السودان منذ القدم الإنتاج الزراعي في «بلدات صغيرة» كانت تحقق الاكتفاء الذاتي، بل كذلك تحقيق فائض للتصدير فضلاً عن تربية الماشية للاستهلاك المحلي وللتصدير أيضاً. وفي مجال الصناعات الحرفية الصغيرة هناك ما لا حصر لهم ولا عد من العمال المهرة، ولكن البطالة تعذبهم حتى النخاع، ومطلبهم الأساسي أن تتولى الحكومة تشييد مناطق للصناعات الصغيرة يتم تمثيلها لهم على أقساط كما كان يحدث في الماضي ولكن ومنذ سنوات طوال توقف هذا الاتجاه ومما زاد الطين بلة الجبايات التي درجت الدولة على فرضها سواء بالنسبة للإنتاج الحرفي الصغير أم الخدمات. فهذه مجرد أمثلة والحلول أوضح من الشمس ومن ذلك أن تتضافر جهود الدولة مع جهود الجماهير لتحويل المجتمع إلى قوة كبيرة منتجة وبكل ما يمكن أن تقدمه الدولة من تشجيع وتسهيلات بعيداً عن تعقيدات الجهاز البيروقراطي الذي لا يهمه الإنسان، أغلى رأسمال، بقدر ما يهمه الاستمساك بالاجراءات الروتينية العقيمة والمعيقة لكل اصلاحات يحتاجها الناس والوطن. السوق لا يرحم!! السوق هزمنا هذه العبارة أطلقها الإمام الصادق المهدي حينما كان رئيساً للحكومة المنتخبة على أيام عودة التعددية الثالثة ووقتها تصاعد تيرمومتر الغلاء تصاعداً مخيفاً والتفاصيل معروفة ولكن يكفي فقط الإشارة هنا إلى ارتفاع أسعار اللحوم، وشح الرغيف وطوابير أمام المخابز، وكان السُذّج يتصورون أن الإمام الصادق يملك عصا موسى لتحسين أحوال الشعب بعد سقوط نظام مايو فخاب تصورهم، وما حدث هو بالضبط أن مافيا السوق وجدت فرصتها الذهبية لإشباع فهمها بإدخال الضروريات في السوق السوداء فصالت وجالت في ظل ديمقراطية شكلية ليس من همومها القيام بحركة اصلاحية أو تركيز على التنمية كقضية أساسية.. ومن يومها لم تعد الأسعار تعرف الانخفاض وإنما عرفت مزيداً من التصاعد. وعلى أيامنا الراهنة ما أن اقترب شهر رمضان المعظّم الماضي حتى تفاجأ الناس بتصاعد جديد في الأسعار شمل مختلف الضروريات وعلى رأسها اللحوم والألبان والخضروات وحتى التوابل وغيرها هذا مع وفرة هذه السلع، ولكن مع سياسة التحرير زاد الطين بلة حيث لم تعد الأسعار إلى ما كانت عليه قبل قدوم الشهر الفضيل بأيام قليلة، وهي عادة مزمنة أدمنتها مافيا السوق. وهناك من يقول إن الحل يكمن في زيادة الرواتب في القطاعين العام والخاص.. لا بأس، ولكن من يضمن أن زيادة الرواتب في الحكومة والشركات لن يمتصها السوق حتى الثمالة، وهل سيقف أصحاب الأعمال الحرة، بما فيهم النجارين والحلاقين والسباكين والبنائين والترزية وغيرهم مكتوفي الأيدي يتفرّجون دون أن يرفعوا من أسعار خدماتهم؟ قضية اقتصادية لا يستهان بها، ولكن ماذا يقول أهل الحكومة وأهل الاقتصاد والاجتماع في هذا الشأن، والوطن يواجه اليوم أكبر حدث في تاريخه منذ أن نال استغلاله، وهو استفتاء الجنوب واحتمالاته وتداعياته، وهناك قوى لا شك في مخططاتها وتربصها بهذا الوطن صاحب الموارد الهائلة!