أشرنا في الحلقة الماضية بصورة عامة إلى مهام وإختصاصات المفوضية الوليدة، ووعدنا بأن نفصل ما أجملناه في الحلقات التالية. إن الوظيفة الكبرى، والغاية العظمى، من إنشاء الآليات الوطنية لحقوق الإنسان، هي تعزيز وحماية هذه الحقوق، ومن نافلة القول إن الإلمام بكنة هذه الحقوق المشار اليها، وتكيفيها الدستوري والقانوني، يمثل الخطوة الأولى، والمقدمة المنطقية، لتمكينها ، وترقيتها ومن ثم الذود عنها. حقوق الإنسان، أو الحقوق الأساسية، أو الحقوق الدستورية، أو الحريات العامة، كلها مترادفات ومصطلحات، إعتاد أهل الشأن استخدامها عند الحديث عن طائفة من الحقوق والمزايا الطبيعية، التي يتمتع بها أي مخلوق بشرى، يغض النظر عن عرقة، أو نوعه، أو دينه، أو لغته، أو موطنه، أو فكره السياسي، أو مذهبه، أو نشأته الاجتماعية، أو وضعه الاقتصادي. وترتكز فلسفة ومرجعية حقوق الإنسان، على نقطة جوهرية، هي أن الإنسان عندما يولد، يولد وله كرامة وقيمة، متأصلة وكامنة فيه بفضل طبيعته البشرية، وذاتيته الإنسانية. يولد وقد خصه الخالق بهذه الميزة، وفضله على غيره من المخلوقات والكائنات، لهذا لا يجوز إذلاله، أو تحقيره، أو حرمانه من حق الحياة، أو الحق في الرقي ،والتطور، أو المشاركة في إعمار الكون، وحقه في الإسهام في إدارة الشأن العام، وفي الإعتقاد والتعبير، والتنظيم، والتجمع، والإنتخاب والترشيح، والخصوصية، والحرية الشخصية و المحاكمة العادلة، والحق في التقاضي، والمساواة، والحرمة من الإعتقال غير المشروع، والتعذيب، والاسترقاق، والسخرة، والحق في العمل والكسب، والوظيفة العامة، والحق في التعليم والصحة، والعيش الكريم، وفي تلقي المعرفة، والتواصل مع الآخرين، والزواج وبناء الأسرة، وفي الضمان الاجتماعي، والرعاية، وغير ذلك من الحقوق والحريات المدنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولما كانت معظم هذه الحقوق ، تنطوي على قيم أخلاقية رفيعة، كان بديهياً أن ترد ضمن الفضائل والمعان السامية ومكارم الأخلاق التي دعت اليها وحثت عليها الأديان السماوية، وبشر بها الأنبياء والرسل، وفي مقدمتهم خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».. وبهذا الفهم يرتقى إحترام حقوق الإنسان من التزام قانوني إلى واجب ديني، يبتغى به المؤمنون مرضاة الله وثوابه. ومن بعد التعاليم الدينية، التي كانت سباقة في مجال حقوق الإنسان، إنتقل الإهتمام بها، وظهر في كتابات ومساجلات الفلاسفة والمصلحين الأوربيين، خاصة في القرون الوسطى، وعصر النهضة، والذين مهدت آراؤهم وأفكارهم لقيام الثورات الكبرى ضد الظلم والطغيان، وفي مواجهة الملوك والاقطاع والكهنة، وإلى تبني مبادئ وشعارات الإخاء والمساواة والحرية والعدالة، التي عبرت عنها بواكير الدساتير الوضعية في أمريكا وفي فرنسا، ثم تبعتها دساتير الدول المتقدمة ، والتي لم يخلو دستور لها من باب خاص بحقوق الإنسان، ومع إتساع الوعي والعناية والاهتمام بالحقوق الأساسية على المستوى الدولي، أكتسبت هذه الحقوق سمة عالمية، توجت بصدور المواثيق والصكوك الدولية لحقوق الإنسان، وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948م، والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية، وللحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عام 1966م. ثم تواترت الصكوك الدولية في هذا الشأن وغطت مجالات واسعة، مثل حقوق المرأة والطفل، وحظر الرق والسخرة، والتمييز العنصري، والتعذيب، والحقوق السياسية، والعمل، والحقوق الفكرية، وغيرها. ولقد جرت محاولات من قبل الفقهاء، والشراح، لتصنيف حقوق الإنسان، لكن من زوايا ومداخل مختلفة، إذ صنفت بوساطة البعض وفقاً للموضوع، فنقول الحقوق السياسية أو الاقتصادية أو الإجتماعية ، وقسمها آخرون بين حقوق عامة، وحقوق خاصة بفئات من المجتمع أي أن التقسيم هنا فئوي وقطاعي، حقوق للمرأة أو للطفل، أو لذوي الحاجات الخاصة، أو لمجموعات السكان الأصليين، أو للأسرى، أو للاجئيين..الخ. وفضل فريق ثالث، أن تكون التفرقة بين حقوق فردية، وحقوق جماعية، كحق تقرير المصير، أو الحق في التنمية مثلاً، والتي وبطبيعتها لا يمكن التمتع بها إلى جماعياً. وآثرت مجموعة من الفقهاء ترتيب الحقوق والصكوك الخاصة بحقوق الانسان، زمنياً، وفق إصدارها في هيئة اتفاقيات أو عهود دولية، فيشيرون بذلك إلى الجيل الأول من الحقوق، وهو الحقوق المدنية والسياسية، ثم الجيل الثاني وهو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ثم الجيل الثالث المتعلق بمجالات حديثة واهتمامات نوعية، مثل حماية البيئة، والملكية الفكرية على سبيل المثال. فضلاً عن ذلك، فإن الصكوك المستخدمة دولياً تتفاوت من حيث التسمية، ومن حيث الإلزامية والقوة القانونية، فالإعلان Declaratin ليست له قوة اوالزامية الاتفاقية الدولية، لكنه بتمتع بوزن أدبي وسياسي كبير، أما العهد covenet أو الاتفاقيةConvention فكلاهما ملزم كمعاهدة دولية متعددة الأطراف.. وبعض هذه المعاهدات تلحق بها برتكولات اختيارية، تحتاج إلى مصادقة مستقلة عن المصادقة على المعاهدة أو الاتفاقية الأم، وتنطوي على التزامات اضافية، كالخضوع للرقابة من قبل أجهزة دولية. والصكوك الدولية سواء كانت إعلانات، أو اتفاقيات، يمكن تصنيفها جغرافياً، بين صكوك دولية كاتفاقية حقوق الطفل مثلاً ،أو اتفاقية مناهضة التعذيب، أو صكوك اقليمية تغطي منطقة أو قارة معينة، ومن أمثلة ذلك الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان، والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، والميثاق العربي، وإعلان القاهرة لحقوق الإنسان، الذي أصدرته دول المؤتمر الإسلامي. في الحلقات القادمة تواصل الحديث عن دور المفوضية الوطنية لحقوق الإنسان في السودان. والله من وراء القصد