قالت أنا من أسرة محافظة أحفظ عن ظهر قلب الخطوط الحمر التي لا أتجاوزها أبداً في دخولي للجامعة.. ورغم ثقتهم الشديدة بي أقصد أسرتي.. إلا أنهم راجعوا معي تلك القوانين لمجرد التذكير وهي لا صداقة مع أي بنت إلا بالتأكد من سلوكها وأخلاقياتها.. وأن لا زمالة ولا تأخر خارج الجامعة.. وزمالتي مع الزملاء في حدود ضيقة ودراسية فقط وداخل الجامعة فقط.. لا مكالمات من أولاد ولا إعطاء أي رقم لأي ولد.. لا جلسات مختلطة ولا حتى جلوس تحت كباري أو حدائق عامة حتى مع بنات الجامعة-المواصلات.. البيت. التقيت به يا فضيلة الشيخ داخل حرم الجامعة وكنا مجموعة من الزميلات والزملاء نتناقش حول موضوع دراسي.. دق قلبي فجأة عندما رأيته ولم أكن أتصور في يوم من الأيام أن يكون فارس أحلامي مثل هذا الشخص.. فهو شاب عادي وليس كثير الوسامة.. ولكن له هدوء غريب وتهذيب لم أرَ مثله من قبل.. لا يكاد يرفع طرفه ليحادث بنتاً وهو في منتهى المسكنة لدرجة أن الزملاء لا يلتفتون له كثيراً.. ولبسه يدل على أنه من أسرة فقيرة ولكن ما يلفت الأنظار النورانية التي تبدو واضحة في وجهه.. ومما لاحظته أنه يسرع الخطى لإدراك صلاة الجماعة حتى قبل النداء إليها بالآذان.. صدق من قال إن الحب أعمى.. وإنه يقع من أول نظرة.. وإن القلوب تتسابق للتعارف من قبل نظرة فابتسامة فسلام فكلام فلقاء.. هكذا أحببته يا فضيلة الشيخ من صميم قلبي.. نحل جسمي وصرت أفكر فيه كثيراً وأعيد كلماته مرات ومرات.. صار بيننا حب صامت يزداد يوماً بعد يوم.. ولكن سلاسل وقيوداً التزامنا الديني تجعله كوحش كاسر حبيس جدران أسمنتية لا يمكن اختراقها ولا تجاوزها.. فقط أكون في منتهى السعادة إذا رأيته قادماً علينا.. وأحس كذلك بالسعادة بادية على محياه. وذات مرة غبت عن الجامعة لمدة أسبوع لظروف عائلية.. وعندما عدت للجامعة بعد ذلك الأسبوع أخبرتني زميلتي بأنه كان يسأل يومياً عني بشدة وينصرف دون أن يتكلم مع أحد.. ظننت أني قد وعدته بإحضار مذكرة له وأنه انزعج لذلك، لا سيما أن الامتحانات على الأبواب، سعدت جداً عندما رأيت علامة الحزن والإعياء تتبدل إلى سعادة وفرح وابتسامة عريضة عندما رآني وقال لي حمد الله على السلامة. الجامعة يا فضيلة الشيخ شارفت على الانتهاء وأوشكنا على التخرج لكني حتماً سأجن إن لم أجده بعد ذلك.. لا أريد غيره إنساناً.. أريد أن أتزوجه هو فقط.. كيف السبيل إلى ذلك وما هو المخرج؟ قلت بارك الله فيك بنيتي.. إن هذا هو الحب الحقيقي.. وإنك إنسانة عفيفة شريفة ذات دين وخلق.. أشيد بك وبأسرتك.. والله لو كان ابني لأمرته فوراً بالزواج منك كما أمر سيدنا عمر أولاده بالزواج من تلك البنت التي سمعها تقول لأمها إذا نحن خلطنا اللبن بالماء لنبيعه ولم يرنا عمر.. فإن رب عمر يرانا. كثير يا بنيتي من البنات استسلمن للمحبوب بحجة الحب.. فضيعن أنفسهن ويضيعن الحب.. ولما غلطن صار ذلك المحبوب من أكثر مروجي الشائعات وتنكر وصار يبحث عن غيرهن من الضعيفات.. إن الله لطيف بعباده وهو لن يضيع من هي مثلك.. قولي دائماً قوله تعالى: (وإنه على رجعه لقادر).. (يا ودود يا هادي يا جامع اسألك بكل اسم هو لك.. سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجمع بيني وبين من أحب في الحلال والقِ المحبة في قلوبنا).. واصلي على هذا الدعاء ولا تخافي ولا تحزني وفوضي أمرك لله. ودعتها وظللت أدعو لهما أن يجمع الله بينهما في الحلال.. أتتني بعد التخرج قالت زميلي الذي حدثتك عنه سافر إلى مصر بحثاً عن العمل وانقطعت عني أخباره.. أنا الآن في حالة زهد عن الدنيا كلها.. قلت لا تيأسي من رحمة الله.. وأكيد أن الغائب عذره (معاهو).. فقط أطلب منك أن تواصلي دعاءك وألحي في طلبك.. أتتني مرة ثانية وقالت علمت من زميلة تعرف صديقه أنه انضم للثوار في مصر في ميدان التحرير. قالت لي في آخر مرة كيف سيعود.. ليس لي في هذه الدنيا أمل غيرك.. وإني أجد في نصحك لي وتبصيري عزاءً وراحة.. علمت يا فضيلة الشيخ أنه دخل ليبيا وأنه انضم للثوار وأني قد رأيته بالتلفاز وهو في حالة يرثى لها من التعب والإجهاد.. قلت إن الله سينصره وسينصرك.. واصلي الدعاء. وبعد أن انتهى نظام حكم القذافي قالت لي وكلها فرح وأمل انتصر الثوار.. إني أحس أن في انتصارهم انتصاراً لي.. قلت ابشري إن شاء الله تتم لك الفرحة الكبرى.. وما هي إلا أيام وأتت معها والدتها وهي تكاد تطير من الفرح وقالت لي يا شيخنا بارك لي وبارك الله فيك.. الحمد لله تصور أنه أرسل توكيلاً لأهله ليعقدوا عليّ ويزفوني له بطرابلس.. جئت لأدعوك بنفسي لحضور زواجي.. قلت حباً وكرامة زواجاً مباركاً وذرية صالحة وبالمال والعيال.. أرضيتِ ربك فأرضاك..الحمد لله ثم الحمد لله على هذا المخرج. وإلى اللقاء في مخرج جديد. قال تعالى: (... ومن يتقِ الله يجعل له مخرجاً) سورة الطلاق الآية (2).