الكنيسة القبطية: تسمي الكنيسة القبطية كنيسة الإسكندرية، وكانت قد بدأت في ميناء الإسكندرية الذي كان مزدحماً بالناس من العديد من الأجناس، وكان كرسي البابا لابد أن يكون هناك، ولقد بدأ مرقس التبشير هناك، وهو أفريقي، ليبي المولد، فلسطيني الجنس، وبهذا تعد كنيسة الإسكندرية لؤلؤة أفريقية، وهي كنيسة محافظة، حافظت على ما استلمته من مرقس البشير، وظلت أمينة في رسالتها، وهناك العديد من الأدباء والكُتَّاب المسلمين الذين أحبوا الكنيسة القبطية، وهم أقباط مسلمون تهمهم كنيستهم، وأمامي الآن نموذجان الأول للصحفي المخضرم محمد حسنين هيكل، وفي كتابه «خريف الغضب» جاء حديثة عن الكنيسة القبطية- أمه الحنون- التي أحتضنت الأبدية، وعرفت معنى استقلال القلب، وعاشت رحلتها واجتازت مرارات الطريق، وعبرت بموكب من الشهداء الذين ماتوا للحفاظ على الإيمان، وموكب الأمناء الذين آزروا الكنيسة رغم إغراءات الحاكم المستبد الذي كان يرصد المال الكثير لمن يقبض على البابا المنفي، ولم يخضع أحد لإغراء المال، ولم يسجل أي إختراق لهذه الأمانة، وحافظ كل أعضاء الكنيسة على لاهوت الكنيسة قوياً نافذاً مفهوماً في صيغ دقيقة وتوجهات رقيقة، أما الكاتب الثاني فهو المستشار طارق البشرى، رجل القانون الكبير، القبطي الملتزم، الذي دخل إلى باب تسجيل التاريخ هاوياً عاشقاً، حريصاً على تماسك الجماعة الوطنية، أقباطاً ومسلمين، مدركاً لأهمية إمتلاك الذات، حريصاً على ما يوحد ليس ما يفرق، ما يجمع ليس ما يبدد، ينمي الإنتماء ويرفض تصفية الإنتماء، لقد بدأ تاريخه منذ القرن التاسع عشر، ووصل إلى القرن العشرين في كتابه الموسوم «المسلمون والأقباط في إطار الجامعة الوطنية»، ولقد أعتز البشرى بتراث الأقباط، كل الأقباط مسلمين ومسيحيين، كما أعتز بتراث الأزهر الشريف، وكانت دراسته للمؤسسات مؤسسية، وأخذت منه الدراسة سنوات عديدات ليصبح مرجعاً مفيداً لكل باحث، بدأ بميلاد الدولة، مناقشاً هذا الميلاد هل هو على يد الحملة الفرنسية، أم على يد محمد علي الذي اختاره الشعب والياً، ولكنه كان صاحب تطلعات أن يجعل مصر قطعة من أوربا، وكانت لديه تحفظات حتى على مشاركة أبناء مصر في الحكم وفي الجيش، ومن الأفضل أن أعرض بعض ما قال عن الكنيسة القبطية. الكنيسة القبطية: يذكر الدكتور وليم سليمان، أن كنيسة مصر لم تنس قط الحقبة الأولى من تاريخها، عندما لقي الأقباط كل عنت واضطهاد على أيدي المسيحيين الملكانيين-الذين ساموهم باسم المسيحية- أشد أنواع العذاب. وأنه حتى الآن لا يكاد يمضي شهر إلا وفيه ذكرى لأحد شهداء هذه الفترة، وحتى الآن تذكر الكنيسة أبناءها في اجتماعات الصلاة بما لقيه آباؤهم على يد كنيسة بيزنطة من تعذيب، وأن الأقباط لم ينسوا قط كيف يتخذ الدين ستاراً للقهر والاستغلال. وعلى مشارف التاريخ الحديث لمصر، تصادفنا قصة البطريرك يوأنس الثامن عشر مع كنيسة روما الكاثوليكية، إذ تولى البطريرك رئاسة الكنيسة المصرية في أكتوبر 1769م وكانت كنيسة روما تبذل أقصى جهودها لضم الكنائس الشرقية إليها، وعلى الأخص الكنيسة المصرية، وبعث بابا روما مندوباً عنه إلى مصر يحمل رسالة يدعو فيها البطريرك القبطي للإتحاد معه، ويعرض عليه مشروع خطاب أعدته كنيسة روما ليكون صيغة المصالحة بين الكنيستين، على ما بينهما من خلافات عقائدية، وطلب إلى البطريرك المصري أن يوافق على هذا الخطاب ويرسله إليه لإعلان الإتحاد بين الكنيستين. ويمكن تصور ظروف هذه الفترة، التي بزغ فيها نجم الحضارة الأوربية، وأصبحت ذات قوة إقتصادية وعسكرية، وذات هيبة وانتشار وإطماع، وهي ذاتها الفترة التي كانت فيها مصر وما حولها ترسف في أغلال من التخلف بعد سابق إزدهار مجيد في العصر الوسيط، وتعاني من حكم الأتراك العثمانيين قسوة واستقلالاً وتخلفاً، وكل ذلك يشكل ظرفاً مواتياً لتحقيق الأطماع الأوربية، على أن البطريرك القبطي رفض تلك الدعوة، وكلف أحد كبار اللاهوتيين من الأقباط، الأنبا يوساب الأبح، بإعداد خطاب يرد فيه بالرفض على دعوة الإتحاد، فجاء الخطاب مشتملاً على أقسى أنواع العنف والسخرية والتهكم من العرض الرومي، ورد به: «وأني لأعجب من كثرة ذكاوة عقلكم ودقة فهمكم الرفيع، الذي لم نره من أحد قط من مدة كبيرة، وما ينبغي على ألف ومائتين سنة، وما سمعنا بأحد من المرسلين من قبل البابا الروماني كتب من عنده صورة رسالة إلى آبائي البطاركة الذين سلفوا قبلنا، ويعرفه فيها أن يكتبها للبابا الروماني ويخضع له ويصير تحت إعتقاده كما صنعتم أنتم...» وحدث أن كثيراً من التجار الفرنج وفد إلى مصر من القرن السابع عشر وأنه في أواخر ذلك القرن أرسل البابا جماعة من الرهبان لبث المذهب الكاثوليكي بين الأقباط، وفي أوائل القرن الثامن عشر زاد عددهم، واستوطن بعضهم مدن الصعيد ونشطوا في جذب الأقباط، وتبعهم عدد قليل من القبط نشأ به انقسام مذهبي بين الأسر القبطية، ونشط الكاثوليك في إستغلال هذا الإنقسام للإجتراء من سلطة البطريرك القبطي في مسائل الأحوال الشخصية، ولكن الكنيسة القبطية وقفت ضد هذا الأمر، ولجأت إلى الحكومة، فصدر من المحكمة الشرعية الكبري في مصر سنة 1738م صدر حكم بأن تكون سلطة الفصل في هذه المسائل للبطريرك القبطي الأرثوذكسي، وحشدت الكنيسة جهودها للتصدي لهذه الحملة التي شنتها الإرساليات الكاثوليكية، وسجل التاريخ ليوساب الأبح، أسقف جرجا وأخميم، الذي عاش في عهد البطريرك يوأنس الثامن عشر، سجل له أثراً كبيراً في وقف النشاط الكاثوليكي«وبذل جهداً جباراً في سبيل لمَّ شعبه وضمه إلى أحضان الكنيسة الأورثوكسية». ورد في كتاب وصف مصر«لماييه» مبعوث فرنسا في مصر سنة1709م(أن أولئك الرهبان لم يصادفوا نجاحاً كبيراً بالرغم مما بذلوه من طرق الترغيب)، وعندما غزا الفرنسيون مصر، عرف نشاط الجنرال يعقوب الذي كون فرقة قبطية ساعدت الفرنسيين في مصر، كما عرف بالمقابل اعتداء من المماليك على المسيحيين وعلى منازلهم وكنائسهم، ويذكر كتاب تاريخ الأمة القبطية1898 أن رجال الدين لم يكونوا راضين عن الجنرال يعقوب، وأنه كان بينه وبين البطريرك مشاحنات ومنازعات بلغت حد دخول الجنرال الكنيسة مرة، وهو راكب جواده رافع سلاحه، ومع خروج الفرنسيين من مصر، وجه البطريرك مرقص الثامن رسالة إلى الأقباط، هاجم فيها بأسى ما ظهر في الفترة الأخيرة من ظواهر«إبتدأنا أن نتعلم عادات الأممالغربية، ولازمنا معاشرة فاعلي الشر، وأبدلنا حب بعضنا بعضاً بالعداوة... وكل ذلك ونحن لا نرجع عن فعلنا الردئ.. وأما نحن الآن فمثابرون ليس على الأعمال الصالحة بل على ضد ذلك، عكسنا المقدمات كلها وأضعنا تدبير حياتنا فيما لا ينفع ولا يبني، فلا الشيخ يستحي من شيخوخته ولا الشاب يشفق على شبابه، ولا النساء تستحي من بعولهن، ولا العذارى من بتوليتهن..» ونصحهم بالشفقة والرحمة والمحبة والغيرة على فعل الخير.