«لن نقبل بالوصاية من كيان أو فرد أو جماعة».. كانت تلك خلاصة إجابة الرئيس البشير رداً على سؤال الأستاذ الطاهر حسن التوم في اللقاء الأخير عن ظاهرة «المذكرات» الداعية للتصحيح، والموجهة للمؤتمر الوطني من أناس وكوادر شبابية محسوبة عليه، أو هي جزء من عضويته أو عضوية «الحركة الإسلامية»، وهي إجابة استمطرت تأويلات وتخمينات كثيرة حملتها بعض الصحف والمواقع الإسفيرية، في اجتهادات حرك بعضها «التمنيات» التي تُغذيها روح الخصومة والشنآن، وحرك بعضها الآخر الحرص على النظام والحزب الحاكم، وقبل ذلك مستقبل الحركة الإسلامية في السودان، كأصحاب المذكرة -مذكر الألف أخ- الذين رأوا في الانقلاب الذي حمل الحركة إلى السلطة -في 30 يونيو 1989- عملاً خاطئاً وتكتيكاً عاطلاً سيقوض الحركة من جذورها، برغم أنه موقف وإعلان متأخر بحساب الزمن وتطور الأحداث، إذ يأتي بعد انصرام عقدين على واقعة الانقلاب. ü في الإجابة على ذلك السؤال قال البشير: إن الجهة الوحيدة التي عليها الدفع بالمذكرات هي المؤتمر الوطني وعبر أجهزته ومؤسساته، وإنه لا وصاية على المؤتمر الوطني «من خارجه»، وإن من يدعون أنهم «أهل الحل والعقد» أفراداً أو جماعات لن يفرضوا وصايتهم على الحزب، وإن من وقعوا على المذكرة من أعضاء المؤتمر الوطني «يجب أن يقدموا للمحاسبة»، وكانت الجملة المفتاحية التي استدعت التأويلات هي «لن نقبل الوصاية من (كيان) أو أفراد أو جماعة». فالمعروف في الساحة السياسية السودانية أن «الحركة الإسلامية» التي كانت قبل الانقلاب تعمل تحت عنوان «الجبهة القومية الإسلامية» قد تم حلها رسمياً من قبل الأمين العام الدكتور حسن الترابي الذي اجتمع بكبار قادتها ورموزها التاريخية، بعد قليل من مغادرته «الحبس التمويهي» في سجن كوبر، وأبلغهم بحل الحركة أو «حزب الجبهة» وأهداهم نسخاً من المصحف الشريف وأوصاهم بالتفرغ للعبادة، وبذلك أصبحت الحركة جماعة بلا تنظيم أو رابط على هامش حزب المؤتمر الوطني حديث التأسيس تحت جناح السلطة الحاكمة، لكنها في الوقت ذاته أصبحت هي السلطة الفعلية إذ انخرطت جل كوادرها الناشطة والفاعلة في «التنظيم السلطوي» الجديد واحتلت موقع القلب فيه الذي يغذي الجسم كله بالدم وينفخ الأوكسجين في خلاياه، بالرغم من توافد أعداد كبيرة من الراغبين في الالتحاق بالسلطة والتمتع بالمزايا والفرص التي يوفرها الكيان الجديد، بينما نأى بعض أعضاء الحركة وكوادرها المتقدمة عن الاندغام في النظام واتخذوا موقف «المراقب»، ولم يلجأوا إلى تشكيل حزب جديد أو تنظيم موازٍ. ü أما بعد المفاصلة، إثر مذكرة العشرة في عام 1999، ولجوء الدكتور حسن الترابي وصحبه لتشكيل تنظيم معارض أسموه «المؤتمر الشعبي» بموازاة «المؤتمر الوطني» الذي غادروه أو أخرجوا منه، وخلال مفاوضات نيفاشا (2005) رأت كوادر الجبهة القومية الإسلامية المنخرطة في المؤتمر الوطني ضرورة تشكيل «كيان» للحركة الإسلامية، فعقدت مؤتمراً عاماً للحركة -بموافقة ورغبة المؤتمر الوطني طبعاً- حتى تميز نفسها داخل المؤتمر الوطني، الذي غدا بمثابة «جبهة عريضة» تجمع أطيافاً من الناس ذوي اتجاهات وعقائد متعددة ومتباينة سياسياً وحتى دينياً، واختار ذلك المؤتمر نائب رئيس الجمهورية ونائب الأمين العام السابق للجبهة القومية الإسلامية علي عثمان محمد طه أميناً عاماً ل«كيان الحركة الإسلامية» في مواجهة منافسه في تلك الانتخابات د. غازي صلاح الدين، لكن نفس المؤتمر اختار المشير عمر البشير - رئيس الدولة ورئيس المؤتمر الوطني- رئيساً لكيان الحركة الإسلامية، وهو الذي أعلن من قبل أنه كان عضواً في حركة الأخوان المسلمين مُذ كان طالباً بالمدرسة الثانوية. ü فالإشارة إذاً، لكلمة «كيان» أو حتى «جماعة» لاتعني بالضرورة «كيان الحركة الإسلامية» الذي يمثل قيادة المؤتمر الوطني وقاعدته الأساسية ومنطلقه الفكري والآيديولوجي، والذي بدونه يصبح المؤتمر الوطني عبارة عن تجمع هلامي ليس هناك من هدف أو فكرة أو تاريخ يربط بين أعضائه -قيادة أو قاعدة- وقد فسر لي صديق ورود عبارة «كيان أو جماعة» في رفض البشير للوصاية، بأن المقصود بها ما يسمى ب«الكيان» الذي يجمع بعض الإسلاميين الذين وقفوا على هامش المؤتمر الوطني ولم يندرجوا في المؤتمر الشعبي، وأسموا أنفسهم في وقت لاحق ب(الكيان)، وربما كانوا هم من يقف وراء «مذكرة الألف أخ» التي رفضها البشير في ذلك اللقاء التلفزيوني، باعتبارها (وصاية) أو باعتبارها محاولة «تكتل» لشق صفوف المؤتمر الوطني أو التشويش عليه. ü وبالرغم من أننا نعلم أن الجسم الفاعل، وليس بالضرورة الغالب من حيث العدد من كوادر وإطارات الحركة الإسلامية -الجبهة القومية الإسلامية سابقاً- لا يزال يحتل موقع القيادة في الحزب الحاكم والدولة، ويتحكم بالتالي في صناعة القرار السياسي والاقتصادي، فإن ظاهرة «المذكرات» وقيام أجسام تنظيمية وكيانات موازية تزعم التعبير عن الحركة الإسلامية السودانية يجب أن تلفت نظر أي مراقب مدقق للتطورات التي تنتظم هذه الحركة وقادت لتشرذمها، أولاً بالمفاصلة أو إطارات فكرية ناشطة ترى خطلاً وأخطاءاً تاريخية ارتكبتها الحركة الإسلامية في سعيها الدؤوب للوصول إلى السلطة بأي ثمن، حتى عبر الانقلاب العسكري، وقد لا يكون لمثل هذا النقد أو الرؤية مردود فوري بحكم توازن القوى بين من هم في السلطة من أبناء الحركة وبين من يقفون على الهامش، ليس بيدهم أكثر من سلاح الكلمة وإعلان الموقف الذي يرونه صواباً. ü لقد كان من العسير على الرئيس البشير، قائد انقلاب الإنقاذ ورئيس الدولة و«الرئيس الفخري»، إذا صح مثل هذا التوصيف، للحركة الإسلامية الحاكمة عبر أطر المؤتمر الوطني، كان من العسير عليه قبول المحتويات والمضامين التي انطوت عليها «مذكرة الألف»، فالمذكرة كما وصفها الكاتب السوداني المقيم بسويسرا كمال سيف، وورد في تقرير ل(الصحافة) كتبه الأستاذ التقي محمد عثمان، تؤكد أن الهدف الأساسي لأصحابها هو إخراج الحركة الإسلامية وإحيائها لتتوفر البيئة اللازمة للمراجعة الأمنية والنقاش الحر اللذين يمهدان الطريق لإعادة التأسيس واستكمال البناء بعيداً عن الدولة ومؤسساتها وحزبها الحاكم، بما يعني أنهم راغبون في النأي بحركتهم وأنهم زاهدون في الصيغة الحالية للحكم. وفي هذا الصدد ينبه د. الطيب زين العابدين -أبرز الوجوه الإسلامية المعارضة لمسيرة الحكم- إلى أن الحركة الإسلامية غير مسجلة، وهي «الحركة الوحيدة التي اختفت من الساحة السياسية والفكرية والثقافية منذ الإنقاذ» -كما قال- وهو تنبيه صحيح في بعض جوانبه، من حيث أن «الحركة الإسلامية غير مسجلة» فعلاً، لكن ذلك كان استجابة لواقع أن الحركة الإسلامية هي «قلب المؤتمر الوطني وجوهره ومحركه الأساسي» فلا يصح من وجهة نظر عملية أو حتى قانونية أن يكون لها تنظيم موازٍ للتنظيم الكبير الذي تديره، كما هو تنبيه جانبه الصواب عندما يقول إن الحركة «اختفت من الساحة السياسية والثقافية منذ مجيء الإنقاذ» فالصحيح هو أن قسماً مهماً من الحركة، وهو الجسم الفاعل والأهم هو الذي تحرك واستلم السلطة عبر الانقلاب وسيطر بافكاره وتوجهاته على الساحة السياسية والفكرية والثقافية وأقصى كل من سواه من القوى السياسية والفكرية عن تلك الساحة بما فيها «من أبى» من عضوية وإطارات الحركة الإسلامية ذاتها. ü في كل الأحوال، فإن «أصحاب المذكرات» -كما تشي محتوياتها ومضامينها- تحركهم دوافع الإشفاق على الحركة الإسلامية، وهم ينظرون إلى المآلات التي انتهت إليها الأنظمة الشمولية في المنطقة، التي لم يكن نظام الإنقاذ استثناءاً بينها على مدى العقدين المنصرمين من الزمان، برغم هامش الحرية الضئيل الذي منحه لمناوئيه السياسيين في أعقاب اتفاقية نيفاشا، ذلك «الهامش» الذي يتخذ منه حجة للتفريق بينه وبين الأنظمة التي عصفت بها رياح «الربيع العربي»، وربما تكون أهمية تلك المذكرات الصادرة من بعض دوائر الحركة الإسلامية -النظامية أو غير النظامية- هي التعبير عن القلق وحالة التوتر والانقسام والتنافر في تلك الدوائر التي لم تكن تفصح صراحة عن يأسها من من اصلاح النظام او مناوأتها لنهجه قبل ذلك، اذا ما استثنينا المؤتمر الشعبي الذي «رفع رايته على رأس جواده» واختار طريق المواجهة واقتلاع النظام، بحسبانه «متنكراً للمواثيق والعهود» كما يقول زعيمه الترابي. ومع ذلك نقول إن الجسم الفاعل والمتحرك للحركة الإسلامية، والذي يملك القدرة على التوجيه بحكم ما توفره له آليات السلطة والثروة يظل هو بموقع القلب من المؤتمر الوطني وهو الممسك بجميع الخيوط، بما يعني -جرياً على المثل- أن «زيت الحركة الإسلامية كان وما زال في بيت المؤتمر الوطني».