حملت صحف الأمس (الاثنين) مخرجات المؤتمر الصحفي لوزيرة التعاون الدولي إشراقة سيد محمود، الذي أعلنت فيه رسمياً تأجيل مؤتمر اسطنبول الاقتصادي لدعم السودان. لأجل غير مُسمى، واتهمت الوزيرة الولاياتالمتحدةالأمريكية بالسعي لتأجيل- لنقرأ عرقلة أو تعويق المؤتمر- وتحريض الدول بعدم المشاركة فيه. بقراءة إفادات الوزيرة في المؤتمر الصحفي يتضح أن ما صدر عنها بشأن الموقف الأمريكي ليس «تهمة» كما جاء في صياغة الأخبار، إنما هو تأكيد لحقائق الواقع المتصلة بذلك الموقف. فالوزيرة قالت: إن الدعوات للمشاركة في المؤتمر صدرت بتوقيع الوزراء المختصين في السودان وتركيا والنرويج، وإن حكومة السودان تفاجأت بالموقف الأمريكي بسحب اسمها- واشنطن- من ديباجة الدعوة، واشتراط أجندة إضافية تتعلق بولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق والمشاكل العالقة بين السودان ودولة الجنوب، ولم تكتفِ الولاياتالمتحدة بذلك، بل أكدت أنها ستسعى لتحريض الدول لعدم المشاركة حال الإصرار على عقد المؤتمر، بالرغم من أن السودان لم يكن صاحب فكرة المؤتمر، ومع ذلك أكدت الوزيرة إشراقة أن الحكومة ما زالت تعمل مع دول الترويكا- ترويكة نيفاشا- «الولاياتالمتحدة وبريطانيا والنرويج» لإنجاح المؤتمر «بعيداً عن الأجندة الأمريكية»! إفادات وزيرة التعاون الدولي تشي بوضوح شديد، بأن حكومتنا السنية لا تزال، برغم كل «الملامات» اليومية التي تواجهها، عبر مسؤوليها الكبار والصغار للولايات المتحدة بأنها «لا تلتزم بما تعد به، وبازدواجية المعايير»، لا تزال غارقة في أحلام وردية، أو «أحلام ظلوط» بشأن السياسة الأمريكية، وهي ملامات درجت على تكرارها في كل مناسبة، بعد نيفاشا وبعد أبوجا، وبعد انفصال الجنوب وفي كل موقف مشابه، فهي لا تزال- كما يبدو- يحدوها «الأمل» بأن تعدل الولاياتالمتحدة من موقفها تجاه «حكومة الإنقاذ» لأنها استجابت المرة تلو الأخرى لنصائح وخطط واشنطن، لكنها لم تجنِ في آخر كل يوم سوى السراب، لذلك تقول الوزيرة «إن الحكومة لا زالت تعمل مع دول الترويكا- الولاياتالمتحدة وبريطانيا والنرويج»، فالحكومة لم تتعلم برغم كل تلك التجارب، أنه لا توجد «ترويكا» وأن المثلث المفترض أو الوهمي قاعدته واحدة هي الولاياتالمتحدة، وأن بريطانيا أو النرويج أو حتى تركيا ما هي إلا «تمومة عدد» في أي مثلث أو مربع أو حتى مُخمس أو أي عدد كان لأي تجمع أو مؤتمر. لا يمكن لأي مراقب منصف أن يبريء الولاياتالمتحدة، بوصفها القطب الأهم إن لم يكن الأوحد في السياسة الإمبريالية الدولية، من التخطيط والتآمر وزرع الفتن والعمل لإضعاف الدول الأخرى عبر تقسيمها أو جعل يدها هي السفلى، فذلك كله مفهوم ومعلوم، لكن الولاياتالمتحدة ومخططيها الإستراتيجيين يستغلون أخطاء الآخرين وتهوراتهم وغباء سياساتهم لتمرير تآمرهم ومخططاتهم، والمثال الأقرب إلى الأذهان في حالة السودان هو تلك «النيران الصديقة» التي فتحت بشكل مفاجيء على اتفاق نافع- عقار في أديس أبابا قبيل انفجار الحرب في النيل الأزرق، ذلك الاتفاق الذي مهد لمصالحة وكلمة سواء بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وهزم وأُلغي على ذلك النحو المفاجيء الذي أحرج د. نافع، بالرغم من موقعه الكبير والأثير في الحزب الحاكم، بوصفه نائب رئيس الحزب، وكانت النتيجة هي تمرد الطرف الآخر في الاتفاق «مالك عقار» واشتعال الحرب في الولاية التي يحكمها، وصلة كل ذلك بإفشال انعقاد مؤتمر اسطنبول لا تحتاج إلى شرح أو تفسير. ولا أدري أين وجه الغرابة في موقف الولاياتالمتحدة، الذي تعتبره الوزيرة «هروباً من التزاماتها السابقة بتعزيز قدرات الدولتين» في حال الانفصال، وكأنها تتصور أن تلك «الالتزامات» ستكون بلا ثمن، هكذا «لوجه الله»، أو تتصور أن ترى واشنطن حلفاءها في الحركة الشعبية- شمالاً- يخوضون «حرب البقاء»- وجنوباً- يشكون من تغول حكومة الشمال على بترولهم وحدودهم كما يدعون، وتظل صامتة وساكنة ولا تحرك إمكاناتها الدبلوماسية والسياسية وربما المالية من أجل دعمهم والانتصار لهم في وجه الحكومة التي تعلن عداءها الصريح- وبأعلى نبرات المايكرفون في الحشود الجماهيرية- لواشنطن ولسياساتها الاستعمارية، فأين وجه الغرابة إذاً، إذا ما عملت واشنطن لتأجيل، بل تعويق مؤتمر اسطنبول لدعم اقتصاد الخرطوم، أليس الاقتصاد والسياسة صنوان، وأن العلاقات السياسية السالكة هي المحطة الأولى في الطريق إلى التعاون الاقتصادي، والعكس صحيح، بحيث يصبح تعثر العلاقات السياسية سبباً لوقف ذلك التعاون بل والحرب الاقتصادية. في ذات الإطار، وفي اليوم نفسه، طالعنا تصريحات للدكتور قطبي المهدي المسؤول البارز وعضو المكتب القيادي لحزب المؤتمر الوطني، قلل فيها من أهمية مطالبة بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي بفرض عقوبات جديدة على السودان، وبالرغم من اعترافه الصريح «بعدم قدرة السودان على ممارسة الضغوط على الإدارة الأمريكية والتعامل معها بالمثل» على حد قوله، إلا أنه أكد قدرة- حزبه وحكومته- «على الصمود لضغوطها والعمل بموقف (أخلاقي قوي) يجبر الرأي العام الأمريكي على أن يحاكم ساسته وإدارته على السياسات الخاطئة وغير المبررة ضد السودان». تصريحات د. قطبي تجيء متزامنة مع انصياع الحكومة لقرار واشنطن القاضي بتأجيل مؤتمر اسطنبول وفي وقت قدم فيه سبعة من أعضاء الكونغرس في الحزبين- الديموقراطي والجمهوري- يوم الخميس الماضي مشروع قانون للكونغرس تحت عنوان «مشروع قانون سلام وأمن ومحاسبة السودان للعام»، هدفه كما قال السيناتور الديموقراطي جيمس ماك نمفرن هو مدّ الإدارة الأمريكية «بكل الأدوات والسلطات التي تحتاجها من أجل السعي للوصول لسلام شامل في السودان وإنهاء تجاوزات حقوق الإنسان وتقديم كل المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية للعدالة». وبغض النظر عن صحة أو دقة (الموقف الأخلاقي القوي) الذي رأى قطبي التحصن به، فما هي الوسائل التي بيد الحزب الحاكم أو الحكومة السودانية للنفاذ إلى الرأي العام الأمريكي حتى يحاكم ساسته وإدارته على «أخطائهم غير المبررة» ضد السودان، فهل لمثل هذا التصريح أو «الكلام» أي مردود حقيقي أو واقعي عند النظر إلى خريطة السياسة الأمريكية ميدانياً، وهل يتوقع د. قطبي أن يصبح للسودان مجموعة ضغط أو «لوبي» يعادل «اللوبي الصهيوني» بحيث يقلب «الطاولة السياسية» أو التصويتية في وجوه أولئك الساسة المعادين للخرطوم، بحيث يصبح أولئك الساسة على ما فعلوا نادمين؟! علاقة الخرطوموواشنطن في مجالات السياسة والحرب والاقتصاد والملفات الشائكة والوعود والمماطلة، تمثل درساً عظيماً يجب أن يجد طريقه إلى مدرجات العلوم السياسية ومحاضرات «الاقتصاد السياسي في جامعاتنا»!