الكلمة كائن حيّ تسري في أوصاله الروح، وتشرق من أردانه أضواء المعاني لتهدي المسامع صوراً من ألوان الطيف الجامعة لذرات التكوين، والمانعة من كل لبس أو غموض، وتكون بذلك قد انفردت بذاتها واستقلت عن لداتها؛ وتأتينا في صدر هذا الحديث كلمتان يظن بعض الناس أنهما مترادفتان، بينما يقول واقع حالهما غير ذلك، فالكلمتان هما الحمد والشكر اللتان تقترنان في التراكيب وتشيران إلى ظواهر التشابه والترادف، إن الحمد في جوهره يعني تقريظاً لعطاء يأتيك من غيرك يشعرك بالرضا، ويأتي هذا التقريظ والتقدير باللسان تحمله كلمات يتم توجيهها إلى المحمود عطاؤه، أما الشكر فهو أيضاً تقريظ وتقدير لعطاء يأتيك من غيرك يشعرك بالرضا، بيد أن وسيلة التقريظ والتقدير هنا ليست اللسان وإنما هي العمل والسلوك المعبِّر عن ذلك التقريظ والتقدير، نحن نحمد الله جل شأنه على نعمته التي لا نطيق إحصاءها، وتلهج بذلك ألسنتنا خلال الدعاء، أما الشكر فيأتي في صورة رد فعل على نعمة أنعمها الله علينا، وذلك عن طريق الأفعال؛ ولكي نقرب المعنى للأذهان نأخذ نعمة صحة الأبدان بخلوِّها من الأدواء الظاهرة وصحة الأنفس بخلوها من الأدواء المستترة، نردد الحمد باللسان في صلواتنا وخلواتنا، في جمعنا وانفرادنا.. ذلك هو الحمد، أما الشكر لنعمة الصحة فيأتي في صورة أفعالنا بأن نستخدم هذه العافية في طاعة الله، نسير بها إلى مواطن العبادة، ونسعى بها لخير الناس، نصل بها ذوي القربى، نسخرها في الكسب الحلال والانفاق في سبيل الله، منزلك الذي أفاء الله به عليك إذا جعلته قبلة للضيف تكرمه وموطناً للعبادة وصلاة الليل، فأنت شاكر لنعمة ربك، وإذا جعلته قبلة للعب الميسر وتناول المحرمات، فأنت كافر بنعمة ربك، فالنِّعمُ وحشية يتم تقييدها بالشكر واستغلالها في طاعة الله، فهي إن شُكرت قرَّت وإن كُفرت فرَّت، وفي إطار الشكر عملاً وسلوكاً أنظر قارئي العزيز إلى قوله تعالى (... اعملوا آل داؤد شكراً وقليل من عبادي الشكور) سبأ (13). وهنالك مثال آخر يتعلق بكلمتين أخذ بعض الناس بأيديهم حرية تحريكهما وإحلال إحداهما مكان الأخرى دون الرجوع إليهما واستنطاقهما عن طبيعة أدائهما. لقد جرى الحال بين المعلمين في بلادنا بأن يبدأوا الدروس بقولهم للتلاميذ الذين يقفون احتراماً لهم: جلوس؛ كلمة أصبحت تُردد ولم يفكر أحد في معناها فتناقلناها ببغاوية تشير إلى الجفوة التي خلقناها مع لغتنا الحبيبة، ورحلنا بها عن منابت الصحيح.. إن مادة جلس مأخوذة من الارتفاع وليس من الانخفاض.. ولذا فإن الجلوس لا يكون إلا من رقاد أو اتكاء.. عن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثاً) قالوا: بلى يا رسول الله.. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئاً فقال: ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.. وحُكي عن النضر بن شميل أنه دخل على المأمون عند مقدمة مرو، فمثل بين يديه وسلم، فقال له المأمون: أجلس فقال: لا أقول إن أمير المؤمنين لحن، ولكن الجلوس عن اضطجاح، قال فكيف تقول: قال: أقعد فإن القعود عن القيام، فأمر له بجائزة، بسم الله الرحمن الرحيم (... فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم...) النساء (103).. (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار) آل عمران (191).. (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً...) يونس (12)، وفي حديث نافع عن عبد الله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما. نكرر القول بضرورة التقرب إلى هذه اللغة فإنها معطاءة لا تبخل علينا بكنوزها، ونقول في شأن المعلمين بخاصة: عليكم أخوتي وأخواتي بتحري الدقة في كل ما تلقونه على أبنائكم وبناتكم فإنكم القدوة، والقدوة متَّبعة وعليها تبعات مسؤوليتها وهذه الأجيال هي نسيجكم فاحكموا النَّسج، وأجيدوا حبك العطاء، والتمسوا العلم في مظانه.