طبيعي أن يطمح المصريون بعد ثورة 25 يناير لرؤية بلادهم تستقر وتتقدم على طريق الشعارات الرئيسية التي رفعتها الثورة من حرية وعيش وكرامة إنسانية وعدالة اجتماعية، وأن يروا أن تلك الشعارات لن تتحقق إلا بعقد اجتماعي أو(دستور دائم) يعبر عن جميع أطياف المجتمع، ويتجاوز حالة الإقصاء والتحكم والدكتاتورية، التي كانت سائدة على مدى مئات السنين، لا سبب، سوى تسلط بعض الحكام أو جشع بعضهم الآخر، خصوصاً والمصريون في مجملهم وطنيون، ويحبون بلادهم حباً جماً، وفوق ذلك يدركون موقعها الفريد الذي جعل منها بوابة العالم القديم إلى العالم الجديد، أو بوابة العالم الأول الحديث إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، بما يؤهلها لنهضة كبرى تستحقها، وتجعل منها أنموذجاً لمحيطها العربي والأفريقي. فوجئت مصر والمصريون بعد الثورة بصعود تيارات سياسية قديمة ومحافظة، أمسكت بمقود الثورة في لحظة الإضطراب والصراع، التي عادة ما تصاحب الثورات، وخلافاً لما جرى في بعض بلدان الربيع العربي الأخرى، فإن أهم ما صنعته تلك القوى المحافظة، مدعومة بجهاز النظام القديم، المتمثل في المجلس العسكري الأعلى هو تجاوز طموحات الشعب وأهدافه المتمثلة في صياغة دستور جديد، يعبر بشكل مباشر عن شعارات الثورة التي رفعتها طلائع الشباب، إلى أن أسقطت النظام، والإبقاء على الخطط التي صممها الرئيس المخلوع وأعوانه عبر(تعديلات دستورية)، هي آخر ما فعله قبل أن يغادر الحكم، وينقل صلاحياته للمجلس العسكري الأعلى..خصوصاً عند إلغاء تلك الخطط والإنتقال مباشرة إلى صياغة دستور جديد، كأهم استحقاق يعقب الثورة، وكواجب فوري لا تتم الواجبات الأخرى بغيره، إنغمس المجلس الأعلى وبتنسيق ملحوظ مع القوى المحافظة المتمثلة في التيارات الدينية في الترتيب لتلك التعديلات، وعرضها لاستفتاء صمم لتزييف الإرادة الشعبية عبر الإبتزاز والترهيب واستدرار العاطفة الدينية، فصور الأمر للجماهير، وفيها قطاع واسع من الأميين سياسياً وحرفياً، بأن الموافقة على تلك التعديلات تعني الاقتراع لصالح الإسلام و(الطريق إلى الجنة)، وأن معارضتها تعني الاقتراع لصالح الكفر والعلمانية، وبالتالي(الطريق إلى جهنم)، وبالفعل أجيزت تلك التعديلات بنسبة كبيرة من أصوات المستفتين، ومهدت الطريق لأن يصدر المجلس الأعلى(إعلاناً دستورياً)بخطط المرحلة الإنتقالية، التي من بينها انتخاب مجلس شعبي ودستوري، في غياب دستور يحدد الصلاحيات، ويؤسس للعلاقة بين السلطات وأجهزة الدولة المختلفة من جهة، وللعلاقة بين الدولة والمجتمع من حيث الحقوق والواجبات من الجهة الأخرى.. فدخل الجميع في حالة ارتباك أو إرباك مقصود، كان المستفيد الأول منه-حتى الآن- هو تيار الإسلام السياسي بمختلف تياراته، مما شجع حتى التيارات السلفية- التي كانت تنأى في الماضي بنفسها- عن خوض المعترك السياسي إلى التخلي عن قناعاتها السابقة، والدخول في إتونه اعتماداً على رصيدها من المال والخدمات التي كانت تقدمها إلى الجمهور من ريع ذلك المال الوفير.. فكانت النتيجة فوز (الإسلام السياسي) بجل مقاعد مجلس الشعب والشورى، استعداداً للسيطرة على الموقف عندما تحين لحظة كتابة الدستور. تبلورت الأزمة أخيراً في حالة استقطاب جاء بين أطياف المجتمع المصري وقواه السياسية، حول كيفية اختيار اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور بأعضائها المائة، فبينما أشار الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مادته الستين، بتكليف مجلس الشعب والشورى لانتخاب أعضاء اللجنة المائة، دون تحديد أو توضيح كيفية الإختيار أو مؤهلاته أو الجهات الواجب تمثيلها في اللجنة، فوجد أعضاء مجلس الشعب والشورى في مؤتمرهما المشتركة أن ذلك يمثل فرصة ذهبية للانقضاض، فقرروا أن يكون (50%) من أعضاء تلك اللجنة من مجلس الشعب والشورى- (البرلمان)-وأن يكون ال(50%) الأخرى من خارجه، وذلك يعني- بحكم أغلبيتها في المجلسين وبحكم وضعهما في بعض النقابات والإتحادات المهنية والدوائر الأخرى- أن يكون لهم تمثيل غالب في اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، بما يمكنهما في النهاية من فرض إرادتهم وصوغ الدستورحسب توجهاتهم السياسية ومشروع الدولة التي يريدون. وسط الهرج والمرج وحالة الاستقطاب التي أفرزتها تدابير الاستحواذ من جانب تيارات الإسلام السياسي للسيطرة على لجنة الدستور، دون حتى مراعاة أن الدستور المنتظر هو الذي يقرر صلاحيات مجلس الشعب والشورى، وبالتالي لا يجوز لأعضائه أن يقرروا هذه الصلاحيات لأنفسهم، لأن في ذلك مخالفة لأبسط قواعد النهج الديمقراطي، وسط هذا الهرج والمرج والاستقطاب أضطر ممثلون للقوى السياسية الأخرى إلى رفع دعوى بالطعن في قرار مجلس الشعب القاضي بتخصيص (50%) من عضوية لجنة الدستور لدى المحكمة الإدارية، وهي الدعوى التي طعن فيها ممثلو التيار الإسلامي تحت ذريعة أن قرار مجلس الشعب والشورى هو عمل من أعمال السيادة لا يجوز الطعن فيه أمام المحاكم، لكن المحكمة ردت الطعن، باعتبار أن القرار هو تنفيذ لتكليف من جانب المجلس الأعلى والإعلان الدستوري باختيار أعضاء اللجنة من الأسماء والقوائم التي تعرض على المجلسين، ولا يندرج في إطار السيادة. تابعت الليلة الماضية حواراً على قناة (العربية) اشترك فيه كل من د. أحمد أبو بركة المستشار القانوني لجماعة الأخوان المسلمين، وحزب الحرية والعدالة، ود. محمد نور فرحات مقدم طعن القوى السياسية، وأطياف المجتمع أمام، دائرة القضاء الإداري، وبدا لي من خلال ذلك الحوار مدى بعد الشقة بين وجهتي النظر والتصورات المتعلقة بكيفية وضع الدستور.. فأبوبركة وكثيرون غيره من المتحدثين باسم التيارات الإسلامية يرون في فوزهم بأغلبية مقاعد الشعب والشورى تفويضاً لهم بصياغة الدستور الدائم، وإن كانوا لا يقولون ذلك صراحة، ولكن من خلال ترتيبات السيطرة والأستحواذ، بينما ترى القوى الأخرى السياسية والطائفية أن الدستور- لكي يكون دائماً- يجب أن يعبر عن جميع قوى المجتمع وأطيافه وأن لا يمثل توجهاً أيديولوجياً أو سياسياً بعينه، بالرغم من الاجماع شبه الكامل على الحفاظ على الهوية الإسلامية للبلاد، دون أن تترجم ذلك في(دولة دينية) لا تناسب التركيبة الجيوسياسية للبلاد، وتهدر مصالحها وأمنها القومي وتدخلها في صراع داخلي وخارجي لا يبقى ولا يذر، ما يجعل من الدولة المدنية والدستور المتوازن الذي يجد فيه جميع مواطني مصر أنفسهم ضرورة ملحة في هذه اللحظة الفارقة في حياة البلاد.