ü من يتابع أخبار مفاوضات القضايا العالقة التي استؤنفت أخيراً في أديس أبابا بعد طول لجاج وتردد أملته أحداث الهجوم الجنوبي على هجليج تحت ذريعة هجمات جوية شمالية على بعض المناطق داخل الحدود الجنوبية، من يتابع تلك «المفاوضات» الدائرية يكتشف أن «حليمة- المتفاوضين- رجعت لعادتها القديمة»، وأن «حجوة أم ضبيبينة» ما زالت تشتغل هناك بين الوفدين، ويبحث كل منهما للآخر عن ما يجعله سبباً يتذرع به لوقف التفاوض أو خفض مستواه، فيشعر من يتابع الجولة المتسأنفة تحت رعاية لجنة ثابو مبيكي، أن كل شيء يبدأ من الصفر ومن جديد، وكأنهم لم يتوصلوا خلال أسابيع قليلة مضت إلى حزمة الاتفاقات التي شملت قضايا الأمن والحدود والحريات الأربع وتركت قضايا النفط وبعض القضايا الأخرى الأكثر تعقيداً كأبيي والعلاقات السياسية بين شطري الوطن المنقسم، لرئيسي الدولتين البشير وسلفاكير. ü فالأخبار الواردة من أديس أبابا تقول- مثلاً- إن الجدل حول أجندة المفاوضات قد عطل جولة التفاوض المباشر بين الطرفين، إن الوساطة الأفريقية قد رفعت المفاوضات لحين وصول وزير الدفاع الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين، والسبب في ذلك هو احتجاج وفد الجنوب بقيادة وزير السلام باقان أموم على ما وصفه «بتقليص وفد السودان المفاوض»، بينما سارع وفد السودان بتسليم الوسيط الأفريقي ورئيس الوزراء الأثيوبي تقريراً حول هجوم الحركة الشعبية على هجليج وتلودي، في ذات الوقت رفضت جوبا طلب الخرطوم بإدراج إلزامها بنزع سلاح أبناء جبال النوبة وخروج «الجيش الشعبي» من جنوب كردفان كأولوية في المناقشات والتفاوض، وقطعت بعدم صلتها بالجيش أو القوات العاملة هناك، وغادر رئيس هيئة أركان جيش دولة الجنوب الفريق جيمس هوث المفاوضات، على خلفية غياب وزير الدفاع السوداني ورئيس هيئة أركان القوات المسلحة ليس هذا فقط، ولكن اتهم رئيس الوفد الجنوبي باقان أمس الأول أيضاً حكومة السودان بمهاجمة منطقتي (مانجا) و باناكوش في ولاية الوحدة أمس الأول وقال للصحافيين «بينما نتحدث الآن يقصف السودان جنوب السودان». ü حرصتُ على إيراد تفاصيل بعض الأخبار الواردة حول الجولة الجديدة للمفاوضات، لإعطاء فكرة واضحة عن أجواء المفاوضات الدائرة الآن في أديس أبابا، وهي لا تختلف كثيراً عن أجواء الجولات السابقة، وإن اختلفت في بعض الحجج التي يرفعها كل فريق في وجه الآخر، لإلقاء اللوم عليه في تعطيل التقدم في المفاوضات لكن أهم ما في ذلك هو الاشتباك- بل التشابك- القائم بين الشمال والجنوب في ما يتصل بأمن الدولتين الناشئتين في الشمال والجنوب بحكم الانفصال، فحكومة الشمال تتهم حكومة الجنوب بدعم ومساندة وتسليح القوات المتمردة في الشمال- القوات الدارفورية.. عدل ومساواة وفصائل حركات التحرير وما إليه، بالإضافة إلى دعم قوات الحلو في جبال النوبة وقوات عقار في النيل الأزرق- وهو اتهام لا يمكن أن نقول إنه بلا أساس. وحكومة الجنوب تتهم من جانبها حكومة الشمال بدعم ومؤازرة الفصائل المتمردة عليها والتي كانت جزءاً من جيشها الشعبي ولها في ذلك حججها التي ترفعها إلى الوسطاء والرأي العام الدولي، وإن لم تكن في وضوح اتهامات الشمال للجنوب بفعل الحرب القائمة على الحدود، والتي يقودها فرع الحركة الشعبية في الشمال؛ بالإضافة إلى الجدل الدائر حول الحدود ذاتها والمناطق الخمس المختلف عليها بما فيها أبيي التي أعيا «حل شِبْكتها» جهود التفاوض المحلي والإقليمي والعالمي وحتى محكمة العدل الدولية، التي أصدرت قرارها وتركت التنفيذ للأطراف المتنازعة، فانطبق على الفرقاء الذين ذهبوا إلى لاهاي المثل «كأنا يا بدر لا رحنا ولا جينا». ü كل هذا يعيدنا إلى نقطة البداية، إلى المقدمات الخاطئة التي كان لابد أن تقود إلى نتائج أشد خطأ وخطراً على الطرفين، فمنذ البداية، منذ توقيع اتفاقية نيفاشا وما بعدها خلال الفترة الانتقالية التي أدارتها «حكومة الوحدة الوطنية» المتشاكسة وحتى قيام الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب، كنا نقول إن «الوحدة والسلام صنوان» لا ينفصلان أبداً، وإنه إذا ما وقع الانفصال فإن طبيعة وواقع البلاد المتمثل في التداخل الكثيف لأقوامه ومصالحهم وللاعتماد المتبادل الطبيعي بين شطري الوطن، شمالاً وجنوباً، لا يمكن أن ينتج انفصالاً سلساً وسلمياً، كما يتصور أصحاب الأجندة الانفصالية والاستئصالية شمالاً وجنوباً، وأن الأمر سينتقل تدريجياً في «هجرة شمالية» باتجاه المناطق التي كانت تقاتل إلى جانب القوى المتمردة في الجنوب، وأن مسألة «المشورة الشعبية» ذلك البند الغامض في اتفاقية نيفاشا، هو قنبلة موقوتة، يعلم من خططوا لعملية السلام ووضعوا إطارها العريض في واشنطن بأنها ستنفجر في «الوقت المناسب»، لتجعل الكيانين المنفصلين في حالة حرب استنزاف متواصلة وأذى مُتبادل وقد كان لهم- للأسف- ما أرادوا، فوقع الانفصال كما توقعوا بزهد حكومة الشمال وموافقتها من حيث المبدأ، وبرغبة عارمة من «القوى القومية الانفصالية» داخل الحركة الشعبية وحكومة الجنوب التي تقودها تلك القوى الانفصالية. ü وحتى عندما وقع الانفصال، أو تيقن الجميع أنه بات قاب قوسين أو أدنى من التحقق، لم تلتفت حكومة الشمال- ضمن القضايا العالقة- إلى ضرورة تفكيك قوات الجيش الشعبي في الشمال بالتسريح أو الاستيعاب أولاً وقبل كل شيء، كأهم استحقاق في الترتيبات الأمنية، التي يدور الحديث حولها الآن في أديس أبابا بضرورة «سحب الفرقتين التاسعة والعاشرة» التابعتين (سابقاً- قبل الانفصال للجيش الشعبي)- وهي علاقة ربما لم تنفصم بشكل كامل بعد، وكذلك بضرورة طرد المعارضة المسلحة ووقف العدائيات، ترفع حكومة الشمال هذه المطالب في وجه حكومة الجنوب، والتي تتعامل «بغتاتة» شديدة وتنكر أي صلة لها بما يدور في جبال النوبة والنيل الأزرق، باعتبارهما منطقتين شماليتين، وأن القوات الموجودة فيهما- الفرقتان 9 و10 والمليشيات المقاتلة إلى جانبهما من أبناء المنطقتين- هي قوات شمالية تتشكل من مواطنين شماليين لديهم مشكلة مع المركز في الخرطوم، وبالتالي فهي ليست معنية بسحب أولئك المقاتلين الشماليين إلى الجنوب، هكذا منطقهم- وعلى غتاته- فهو منطق لا يستطيع الوسطاء فعل شيء بإزائه، ويجب هنا أن نتذكر أنه عندما لاحت فرصة نادرة لوقف الحرب في جبال النوبة، باتفاق أديس أبابا الأول بين د. نافع ومالك عقار، تم إجهاض تلك الفرصة في مهدها، ليتمرد تالياً والي النيل الأزرق وتتمدد الحرب إلى هناك، وليتسع الخرق على الراتق. ü كلام كثير يمكن أن يقال في هذا الصدد، ولكن خلاصته في البداية والنهاية هي أننا وقعنا في شر أعمالنا عندما سمحنا بانفصال الجنوب، فخسرنا الوحدة وخسرنا السلام في آن معاً، بل لم نتحسب حتى لحسن الجوار.. دي يحلوها كيف.. والله ما عارف!!