خلافات الشريكين -المؤتمر الوطني والحركة الشعبية- أمر معتاد منذ أن ظهرت إلى الوجود «حكومة الوحدة الوطنية» في أعقاب توقيع اتفاقية السلام الشامل بنيروبي في يوليو 2005 خلافات أصبحت جزءً لا يتجزأ من منظومة الحراك السياسي، وتعايش معها الناس على ما هي عليه، نظراً للبون الشاسع الفاصل بين توجهات الشريكين السياسية وخلفياتهما الفكرية، لكن من كان ينتظر أن يدفن الشريكان رؤوسهما وعصيهما في الرمال لأكثر من خمس سنوات، ليرفعوها في اللحظة «غير المناسبة» عندما لا يصبح بينهما وبين آخِر وأهم استحقاقات اتفاقية السلام سوى خمسة شهور؟! نعم، ارتفعت الرؤوس والعصي الآن، في شكل خلاف على أهم وأخطر استحقاقات الاتفاقية. المؤتمر الوطني رفع شرطاً جازماً في وجه الحركة بأن لا استفتاء قبل ترسيم الحدود، لأن من بين خيارات الاستفتاء (الانفصال) الذي يعني نشوء دولة جديدة يجب أن تكون حدودها معلومة، وإن تجاهل الحدود يعني «وصفة جاهزة» لحرب جديدة. والحركة الشعبية في أعلى مراجعها رفعت شعار الاستفتاء في كل الأحوال، باكتمال ترسيم الحدود أو بدونه، لأن الاتفاقية لم تنص ولم تجعل ترسيم الحدود شرطاً لقيام الاستفتاء في موعده. فموعد الاستفاء لديها «مقدس». استعراض بعض التصريحات الصادرة عن الحزبين في الأيام القليلة الماضية يكشف لنا بوضوح عمق الخلاف القديم-الجديد حول قضية الحدود والاستفتاء، مثلما يكشف لنا حجم الخلاف وخطورته والصعوبات الشديدة التي تكتنف أي محاولات لبلوغ تسوية بصدده في هذا الوقت القصير المتبقي على استحقاق تقرير المصير.لنأخذ مثلاً، تصريح مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الأمنية الفريق صلاح عبد الله قوش عندما خاطب الملتقى الشبابي العاشر لحزب المؤتمر الوطني يوم السبت الماضي الذي قال فيه «إن اتفاقية السلام الشامل لم يتبق منها سوى تكملة ترسيم الحدود واستفتاء جنوب السودان وأبيي» وعبر عن عدم رضاه -بحسب «الصحافة» الأحد، الأول من اغسطس- حيال قرار المحكمة الدولية الخاص بترسيم حدود أبيي، وشدد على أنه لم يحل المشكلة حتى الآن وأردف قوله إن القرار لم يكن «عادلاً ولا شفافاً ولم يلب احتياجات الطرفين» الأمر الذي يستلزم من الشريكين البحث عن «مخرجات جديدة»، بمعنى إعادة التفاوض حول أبيي، تأكيداً لما قال به في تصريح سابق قبل أيام قليلة عن جاهزية حزبه لذلك التفاوض. أما زميله في المؤتمر الوطني د. إبراهيم غندور فقد حذر في حوار مع «الصحافة» نشرته أمس (الاثنين) الحركة الشعبية من أن «الوطني» لن يكون طرفاً في عملية استفتاء لجنوب السودان تتم بدون ترسيم الحدود، مضيفاً لذلك مطلباً بالاتفاق على قضايا ما بعد الاستفتاء، بالرغم من إشارته إلى أن ترسيم الحدود «اكتمل بنسبة (85%) وما تبقى فيه هو جزء مختلف عليه» منوهاً إلى أنه «بإرادة سياسية واعية يمكن إكمال ما تبقى من ترسيم الحدود»، كما دعا إلى إجراء استفتاء سليم و«إبعاد الجيش الشعبي من العملية تماماً، وأن تكون هناك رقابة دولية ومحلية بدءاً من مرحلة التسجيل إلى إعلان النتائج». في المقابل أعلن الفريق سلفا كير رئيس حكومة الجنوب ورئيس الحركة الشعبية بأن الاستفتاء سينظم في موعده إذا رسِّمت الحدود أو لم ترسم، وهو ما رد عليه غندور في حديثه «للصحافة» بأن ذلك لن يحدث إلا إذا كانت الحركة تريد إجراء الاستفتاء لوحدها، وإن ذلك سيكون خرقاً للاتفاقية والدستور وقفزة في الظلام لا يعرف أي شخص نتائجها، و«حينها سيكون لأي حادث حديث». في جانب الحركة الشعبية، وفي أكثر البؤر القابلة للاشتعال -منطقة أبيي- طالب حاكم إدارية أبيي دينق أروب كوال بالإسراع في تكوين مفوضية استفتاء أبيي، وقال إن خلافات الشريكين تؤخر تشكيل المفوضية، مشيراً إلى أن الخلاف حول رئيس مفوضية استفتاء أبيي، بعد أن سمى المؤتمر الوطني رئيس مفوضية الجنوب. لكن د. إبراهيم غندور قال إن قضية أبيي جزء من ترسيم الحدود، وما ينطبق على بقية الحدود ينطبق عليها رغم قرار التحكيم. وإذا ما أضفنا لحديث حاكم أبيي تصريحاته مساء الأحد لقناة الجزيرة التي عبر فيها عن قلقه من ما وصفه بتحرك قبيلة المسيرية لإسكان بعض منسوبيها في منطقة أبيي المتنازع عليها استعداداً للمشاركة في الاستفتاء، والانزعاج الشديد والغضب الذي تحدث به الحاكم كوال نستطيع أن نتبين المدى الذي بلغته الأزمة بين الشريكين فيما يخص مسألة أبيي. ü من كل ما تقدم وأوردناه من تصريحات الشريكين يمكننا أن نستخلص أن مسألة ترسيم الحدود، التي كان يمكن للشريكين إنجازها «على أقل من راحتهم» خلال السنوات الخمس الماضية قد تم تأجيلها أو التباطؤ فيها لسبب غير معلوم، عزوه «للخلافات بين الولايات» وهو عذرٌُ أقبح من الذنب. ü بشهادة جميع السودانيين والمعنيين في القبيلتين «المسيرية» و«دينكا نقوك»، بل والعالم بأسره، أعلن الشريكان -الوطني والحركة- التزامهما بما يصدر عن محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن نزاع أبيي، وها نحن اليوم نسمع أن الحكم لم يكن «عادلاً ولا شفافاً» ونسمع مطالبة الوطني بإعادة التفاوض والبحث عن «مخرجات جديدة» بحسب تعبير الفريق صلاح عبد الله، فهل يتوقع الفريق أو حزبه أن تقبل الحركة الشعبية بتفاوض جديد يلقي جانباً حكم المحكمة ويبدأ من الصفر. لا أعتقد أن ذلك سيحدث، خصوصاً في قضية ظلت معلقة منذ بداية الفترة الانتقالية عندما رفض الوطني نتائج لجنة الخبراء التي تشكلت خلال المفاوضات لحسم نزاع أبيي بحجة تجاوزهم التفويض، ما اضطر الشريكين إلى اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، وهذا ينبيء بأن الخلاف حول أبيي كفيل بتفجير الموقف وإشعال النيران التي تحرق السهل كله. ü خلافات الحدود والاستفتاء: أيهما أولاً؟، ستباعد الشقة وتعمق الهوة الفاصلة بين مواقف الشريكين، في وقت يسعى فيه الوطني ويتحرك في كل الاتجاهات -شمالاً وجنوباً- من أجل الترويج للوحدة الجاذبة، وهذا كفيل بأن يجعل من مثل هذه المساعي مجرد أضغاث أحلام وضرباً من التخيلات. فمن المعلوم بالضرورة أن الذي يقرر استمرار الوحدة من عدمها ليس شعبنا في جنوب السودان، إنما يقررها ويفصل فيها موقف الحركة الشعبية (النخبة الحاكمة) وليس أحداً سواها، فاذا ما رضيت هي بالوحدة ورغبت فيها فإن جميع الأصوات ستتجه لصندوق الوحدة، وإذا ما رأت غير ذلك فإن صندوق الانفصال هو الذي سيستقبل أصوات المُستفتين. ü الدوامة الفظيعة تتمثل في أن لا يتم الاستفتاء في موعده كما تطالب الحركة، غض النظر عن اكتمال ترسيم الحدود، أو أن يتم الاستفتاء بدون ترسيم الحدود، خصوصاً في أبيي ومناطق التماس الأخرى، وفي الحالتين وحسب تقديرات الشريكين من واقع التصريحات الصادرة عنهم، فإن ذلك سيقود إلى انفجار الحرب، وما أدراك ما الحرب بعد انهيار السلام؟! إنها تلك الحرب التي لا تبقي ولا تذر، وعندها سيعض الجيمع أصابع الندم على فرص السلام والتعايش المضاعة.. فهل اقترب ذلك اليوم.. يوم الحَزَن الأكبر، الذي سيُفزع القاصي والداني؟! ليس بين يدينا إلا أن نسأل الله أن يحفظ الوطن ويجنبنا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.