«يا منايا حوّمي حول الحمى واستعرضينا واصطفي.. كل سمح النفس بسّام العشيات الوفي.. الحليم العف كالأنسام روحاً وسجايا.. أريحي الوجه والكف افتراراً وعطايا.. فإذا لاقاك بالباب بشوشاً وحفي.. بضمير ككتاب الله طاهر.. أنشبي الأظفار في أكتافه واختطفي.. وأمان الله منا يا منايا كلما اشتقتي لميمون المُحيّا ذي البشائر شرفي.. تجدينا مثلاً في الناس سائر.. نقهر الموت حياة ومصائر» ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن سياق الوصف في أبيات صلاح الأثيرة والشهيرة في آن معاً، تمتد لتشمل رجلاً يدعى النور ابراهيم، لكن السياق على دقته وعمقه يتقاصر عن بلوغ مراتبه، فسعادتو- كما يحلو لأصفيائه- ليس مجرد رجل إتصف بكريم الخصال وسمح السجايا، لكنه في أدنى توصيفاته يمثل قيمة تمشي بين الناس وأنموذجاً طيباً، يبعث فيهم الطمأنينة والهداية والرشد، وقد أفلح والده إذ سماه النور، فنال من استحقاق اسمه نصيباً وافراً ودلالة لا تخفى.. النور وهو حفيّ بكل هذه الظلال «إسماً وصفةً ورسماً» ومحفوف بثقافة بدوية لا ترى في التعليم وفق أسوأ التقديرات وأفضلها إلا شراً مستطيراً أو حلالاً مبغوضاً- ورغم ذلك كله- استطاع أن ينتزع له مقعداً دراسياً متقدماً في أشهر مدارس زمانه، فمن الجبلين إلى حنتوب الجميلة إلى الجميلة المستحيلة جامعة الخرطوم كلية الآداب ليتخرج فيها العام 1968م، ويلتحق فور تخرجه بمؤسسة الجمارك مترقياً في هيالكها رأسياً، ومتنقلاً في إداراتها وأفرعها أفقياً، وقد أسهم وفق شهادات أقرانه في توطيد وانجاح تجربة المحطات الجمركية، حيث عمل مديراً بمحطة جمارك جوبا، ومحطة جمارك الجنينة، وأنفق عقدين من عمره بجمارك بورتسودان حتى غدا مديراً لها، لينتهي به مطاف الارتقاء نائباً لمدير جمارك السودان، ويرى لفيف من المراقبين لمسيرة المؤسسات السودانية، أن «لسعادتو» ومجاييله القدح المعلى في إرساء الأسس الإدارية والمهنية التي رفدت الخدمة المدنية السودانية بالكفاءة والإنتاج، والتميز وأن استنانهم لسنن الضبط والصرامة والجدية مازال يجد تأثيره بعيد المدى، فيما تبقى من مؤسسات، وما تبقى من قيم رغم ما دبّ في مفاصلها من عبث التسيس وتسيس العبث.. ومن القطاع العام إلى الخاص عمل «سعادتو» مديراً لعدد من شركات الصادر والوارد، ومخلصاً معتمداً بميناء بورتسودان، ومحطة حاويات سوبا متعاملاً مع جهات نافذة الأثر في التنمية والتطوير الاقتصادي بالسودان، ويكفي أنه تولى تخليص آليات سد مروي أكبر مشروع إستراتيجي بالبلاد، وخلّص كذلك للشركة التي أشرفت على بناء برج الفاتح، حتى بات علامة فارقة في السياحة والعمران بالسودان.. أما مجال الرياضة فإسهاماته فيه أكثر من أن تحصر، وأكبر من أن تذكر، وما على المرء إلا أن ينظر إلى أفضل مواسم نادي وادي النيل ببري، حتى يكتشف أنه كان على عهد رئاسته، ويكفي كذلك أنه أهدى للهلال أشهر هدافيه ومهاجميه صبري الحاج، وأنس النور، ومناوا.. أما في المجال الاجتماعي فيكفي أنه تبوأ مكاناً علياً في مجتمعات بري المشهورة بولائها الحميم لرموزها، وانحيازها الإيجابي لهم، وكيف أنه كان مرجواً فيهم ووقّافاً في مسائلهم ومناسباتهم، ولم أجد في وصفه أصدق مما قاله أحد المريدين في شيخه «إن نفس الزاهد منك لمقرونة بنفس السيد الذي لا يدين في الحياة لغير حكمه» أو ما قاله أحد أصدقائه إن النور هو نفسه لم يتغير أبداً، فكما كان في البادية مختلفاً صار في المدينة مؤتلفاً، ورغم غاشيات الوظيفة العليا لم يزدد إلا تواضعاً وحنواً وإسماحاً، ولم تضفِ على بيته المضياف إلى سعة وحميمية لكل قادم من كل صوب وحدب.. ومثلك يا «سعادتو» تموت أجسامهم لأن الموت على الأحياء حق، ولكن ذكرهم لا يموت، وسيوارى شخصك الكريم في أطباق الثرى، ولكن القبر الذي سيحتوي شخصك لن يستأثر بك، فلك في قلوب الذين يحبونك والذين ينتفعون بك ذكر لن يموت، «ربّ شمس غربت والبدر عنها يخبرُ .. وزهور قد تلاشت وهي في العطر تعيش».. والعزاء موصول لأبنائه النوابغ وإخوانه الفوارس وعشيرته ومعارفه عموماً وآل بري بوجه خاص.. «إنا لله وإنا إليه راجعون»..