عندما أطل ربيع الأعاريب يختال ضاحكاً من الحسن حتى كاد أن يتكلما ظن كثير من الناس- وبعض الظن إثم- أن السودان الذي يحفل عادةً بالرياح الشمالية وتوابعها أكثر مما يحفل بالرياح الجنوبية، سينهض مشرئباً لاستقباله هرباً من صيف قائظ وطويل.. لكن هذا ما لم يحدث على الأقل حتى الآن، ربما لأن السودان ظل يجد سودانويته في استثنائيته، وتوطين مواقفه على نحو مختلف، دون أن يبدي إهتماماً لما سيشكله هذا الإتجاه من تخييب لآمال طائفة عريضة من المعارضة المدنية، التي أنفقت عمرها حتى «هرمت» في انتظار لحظتها التاريخية ورهانها على انتفاضة شعبية شعواء تعيدها وتعيد السودان مرة أخرى لدورة العبث من جديد.. ودون أن يمنح دولة الأمر الواقع كذلك صكوك غفران لما ظلت تجترحه في سبيل استبقاء وجودها واستقواء عودها، وإن مطلت في وعودها ونكصت عن عهودها.. فطفقت قوى الشعب الحية عبر النواظم والأطر المختلفة تستجيب لإستحقاقات بناء الجديد دون أن تسهم في هدم بقايا القديم، ولعل هذا ما استرعى التفات المحبوب حين استشهد بمقولة مانديلا الشهيرة (القديم لم ينته والجديد لم يبزغ فجره بعد).. ومع ذلك انبثقت جبهة الدستور الإسلامي من قلب الجدل الدائر حول هوية الدولة السودانية بعد إنفصال الجنوب، منتزعةً شرعيتها وشعارها مما أعلنه الرئيس البشير في خطابه الشهير عقب الإنفصال حين قال «انتهى عهد الدغمسة» ورغم ما يبدو على هذا الإتجاه من تشبث بما يعتنقه من قيم ويعتقده من تصورات أيديولوجية صارمة، فإنه يخفي بين طياته طموحاً جامحاً لملء الفراغات التي خلفها خروج الترابي، بما ظل يحمله من زخم ورؤية شكلت مورداً مهماً لقوة النظام الناعمة التي تمثل جانب الإغراء لا الإرغام .. ولذا فلا مشاحة من إنبراء عناصر الشعبي بدافع من الوعي واللاوعي لجبهة الدستور، وتسفيه أحلامها، ولا غرابة كذلك إن أخذ الصراع بينهما ينحو إلى حدة الهُراش والإتهامات المتبادلة، إلى حدٍ جعلت كمال عمر يفضّل الإلحاد واليهودية على الإنضواء تحت لواء الوطني، حين أتهمه الطيب مصطفى بأنه غواصة ضد الشعبي لصالح الحزب الحاكم .. وفي هذا السياق تداعت الإنتلجينيسيا الإسلامية المستنزفة في المفاوضات والمنغمسة في تفاصيل المشهد السياسي التجريبي، لتستعيد شيئاً من دورها العضوي وبريقها المفقود، حين اجتمعوا في ندوة جريئة بمنبر الأمين السياسي للمؤتمر الوطني ولاية الخرطوم على مناقشة ورقة الدكتور محمد محجوب هارون حول الدولة الإسلامية كدولة وظيفية، الذي دعا فيها لدرء التعارض المصطلحي والتصنيف الدقيق لما هو علماني، وما هو إسلامي، وما هو مدني، حتى لا يضيع الجدال في قضايا إطلالية تتصل بفروق المصطلحات لا المفاهيم.. مؤكداً أن مفهوم الدولة في الإسلام يحيط به قدر عالي من الإبهام في عوالم الأذهان وعوالم الأعيان على حدٍ سواء.. ومضى سيد الخطيب -وبذات الروح المفاوضة- للدفاع عما هو قائم كأنموذج قياسي.. بردايم.. مع ضرورة نقد التجربة في مساراتها العملية ومساربها التفصيلية نقداً قاسياً، مبدياً خشيته حول ما يمكن أن تثيره معركة الدستور من نقع كثيف ينتقل معها التنافس من حمأة البرامج والرؤى إلى تنميط الدولة بوجهة عقدية أحادية تزيد الأمر تعقيداً.. أما غازي صلاح الدين فقد استطرد في مقارنة ثلاثية الأبعاد بين راهن المسلمين وتاريخهم والغرب، موضحاً أن الدولة الإسلامية الراهنة على قلة نمذجتها تبدو أكثر تعنتاً في تطبيق الأحكام من مثالها التاريخي، سيما في قضايا تجريم الربا قانوناً، ومعاقبة غير المسلمين في معاقرتهم للخمر، وفي الإنفتاح على النظم المغايرة للحضارات المحايثة قيمياً واعتقادياً.. المفاكرة التي نشرتها صحيفة السوداني ولم يحضرها كثير من الناس، كونها انعقدت في إحدى القلاع العاجية التي ترى الواقع من بعد رأسي بخلاف الندوات التي ترى الواقع من بعد أفقي، تمثل في مجموعها ومنتوجها الكلي رؤية متقدمة لمعالجة إشكالات جوهرية في بنية الفكر الإسلامي على أختلاف مدارسه وتنوع منازعه، وربما بصورة أكثر عمقاً وإحاطة من حماسة جبهة الدستور وانفعالياتها الصادقة، بيد أن الصدق وحده لن يجدي فتيلاً في ظل واقع التعقيدات وتعقيدات الواقع، فقد تقاربت المسافات المكانية والوجدانية، باتجاه موقف توافقي يقول بحيادية الدولة، وحرية المجتمع، وأخشى أن تدفعنا نوازعنا الإستثنائية لخرق إجماع جمع بين الغنوشي في أقصى يسار اليمين الإسلامي، وأكرم زهدي، وعبد الكريم بلحاج في أقصى يمين اليمين.. ومع هذا تبقى التجربة السودانية هي الأثرى من حيث جرأة طرحها، وحدة خطابها، وشدة إخفاقها، درجةً ونوعاً، وتبقى كذلك هي الأكثر إلهاماً لصناع التغيير في العالم، من حيث تجنب أخطائها وخطاياها مسيراً ومصيراً.. ولنا عودة..