الناظر في تاريخ العلاقة بين شمال السودان وجنوبه- قبل الانفصال- والمتأمل في المراحل والتطورات التي مرت بها تلك العلاقة، يلحظ بوضوح أن الصلة بين شطري القطر ظلت متأزمة قلقة تحفها الشكوك وعدم الثقة على الدوام، وأن الجنوب طوال العقود السابقة- باستثناء فترات سلام وهدنة قصيرة- بقي جرحاً دامياً في خاصرة الوطن، وعقبة كؤود أمام الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية والسلام الاجتماعي، بل وبوابة للتدخلات الأجنبية والكيد الإقليمي والدولي. والمؤسف حقاً أن البعض في الداخل والخارج، درج على تحميل الشمال حكومة وشعباً وأحزاباً مسؤولية تعقيد المشكلة وتفاقم الأوضاع في الجنوب، وتردي الأحوال الأمنية وازدياد حدة الصراع، بل ووزر الانفصال نتيجة- كما يدعون إلى أخطاء مراكز صنع القرار في الشمال وتهميش الجنوبيين الأبرياء المستضعفين واستغلالهم. ولو تتبعنا مسار مشكلة الجنوب منذ بداياتها منتصف خمسينيات القرن الماضي، وحتى العدوان الآثم والبربري على هجليج قبل أسابيع، ولو أخضعنا هذا المسار إلى التحليل الموضوعي المنصف، لأدركنا أن الشمال كان في أغلب الأحوال الضحية والمجني عليه، وأنه ظل يتعرض من قبل الجنوب إلى الأذى والظلم والعدوان نصف قرن من الزمان. الشمال المفترى عليه بقي يُستهلك اقتصادياً، ويستنزف عسكرياً، ويُبتز سياسياً ويدمّر معنوياً عبر واحدة من أطول وأشرس الحروب الأهلية في العالم، قضى فيها الملايين، وخلّفت أعداداً لا تُحصى من اليتامى والمعوقين والأرامل والمعوزين، دُمّرت بسببها البنيات الأساسية في الجنوب والتي دفع ثمنها الشمال، وتراجعت وتيرة التنمية في البلاد كلها، وتشوهت صورة السودان في المحافل الدولية. الطلقة الأولى، في هذا النزاع المرير.. والتي كانت نذير شؤم ووبال على البلاد بأسرها، أطلقها جنود جنوبيون على ضباطهم الشماليين.. في السابعة من صباح 18 أغسطس 1955م بميدان الطابور، برئاسة الفرقة الجنوبية في توريت مقر قيادة الفرقة. ولقد كانت المناسبة هي وداع قوات رمزية جنوبية للمشاركة في احتفالات الجلاء بالخرطوم، قبيل أشهر من إعلان استقلال السودان، ثم انتشر بعد ذلك التمرد وشارك فيه الجنود ورجال الشرطة وحراس السجون والأهالي، وعمّ كل مراكز وأنحاء المديرية الاستوائية، وارتكبت مذابح فظيعة طالت الشماليين العزل، من موظفين وعمال ومدرسين وتجار، ولم ترحم النساء والأطفال، ولقد جاء في تقرير لجنة التحقيق في تمرد الجنوب، أن طفلاً من آل الفزاري (أم دوم) ولد ليلة 18 أغسطس، قتل مع أربعين من أفراد أسرته في توريت رغم أن عمره كان يوماً واحداً فقط! هذا العدوان الآثم والبربري، والذي راح ضحيته قرابة الأربعمائة شمالي، كان بدون مبرر أو سبب، سوى الحقد الأعمى والكراهية المتجذرة بفعل تحريض المبشرين، وسياسة المناطق المقفولة، وتواطؤ الإداريين الإنجليز ونشاط السياسيين الجنوبيين من أعضاء حزب الأحرار. وعند دخول القوات الشمالية بعد أسبوعين لتوريت، ورغم بشاعة المشاهد التي شاهدوها، إلا أنهم مارسوا ضبط نفس عالٍ ولم يقدموا على أي أعمال انتقامية تجاه الجنوبيين جنوداً أو أهالي. هذا التمرد كان بداية لمشكلة الجنوب، ولم يكن للشمال يد أو ذنب في ما حدث، بل كان الضحية التي دفعت الثمن غالياً، ومن المحزن أن هذا العمل الجبان اعتبر انتفاضة وثورة كما وصفها بذلك الفريق جوزيف لاقو قائد أنانيا الأولى، في مذكراته الشهيرة، وتبعه في ذلك الفريق سلفاكير وهو يحتفل كل عام احتفالاً رسمياً بذكرى تلك الجريمة النكراء، باعتبارها انتفاضة وكفاحاً من أجل الحرية والانعتاق. وكالعادة كان الشمال متسامحاً، ومتعالياً فوق الجراحات، خاصة عند إجراء المحاكم العسكرية لاحقاً، والتي اقتصرت على محاكمة قلة من قيادات التمرد، وفرت لهم كافة فرص الدفاع والمحاكمة العادلة، ولم يطل الإعدام إلا عشرات فقط، بينما حكم على المئات من المتورطين من الجنود وصف الضباط بالسجن لفترات متفاوتة، ونقلوا إلى سجون في الشمال لقضاء فترة العقوبة. ولم تمضِ إلا سنوات قليلة على هذه الأحكام حتى صدر عفو عنهم في مطلع الستينيات فأطلق سراحهم، ونقلوا بالقطارات للجنوب، وبدلاً من شكر الشمال على أريحيته، انضم جميع المفرج عنهم لحركة أنيانيا، وبذا وفروا الكادر البشري المطلوب الذي كان يحتاج له بشدة قائد الحركة جوزيف لاقو، والذي اعترف في مذكراته المشار إليها، بأن الشمال بسذاجته قدم لحركة التمرد خدمة جليلة برفدها بالمئات من العسكريين المدربين، وبذا قويت شوكة أنيانيا الأولى، وساعدها ذلك على تصعيد عملياتها العسكرية ضد الحكومة طيبة القلب حسنة النوايا. وبعد توقيع اتفاقية أديس أبابا عام 1972م، وإعطاء الجنوب حكماً ذاتياً، سيطر الدينكا على كافة المواقع التنفيذية والعسكرية والتشريعية في الإقليم الجنوبي، وأدى ذلك إلى استياء الاستوائيين فتكتلوا تحت قيادة جوزيف طمبرة في مواجهة أبل ألير الذي كان المسؤول الأول في الجنوب، واتهم بممالأة أبناء قبيلته الدينكا، وتحت إصرار الاستوائيين وضغطهم، قام الرئيس نميري عام 1983م بتقسيم الإقليم الجنوبي إلى ثلاثة أقاليم، الأمر الذي أدى إلى نشوب التمرد الثاني تحت قيادة جون قرنق، وتأسيس الحركة الشعبية استناداً إلى أن الرئيس نميري خرق اتفاقية أديس أبابا التي نصت على إقليم واحد لكل الجنوب. إن الوثائق الرسمية، وخاصة محاضر اجتماعات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي عام 1983م، تثبت أن دعاة الاستوائية الكبرى بقيادة جوزيف لاقو وطمبرة، كانوا وراء المذكرة التي قدمت تطالب بتقسيم الجنوب، ورغم ذلك حّمل الجنوبيون نظام مايو، بل الشمال مسؤولية تجدد التمرد كرد فعل على التقسيم، وهو اتهام باطل لا يدانيه إلا اتهام مماثل بأن الشمال هو السبب في تأخر الجنوب، بينما شواهد التاريخ تبرهن على أن سياسة المناطق المقفولة التي طبقها البريطانيون ثم التمرد، كانا وراء إغلاق الجنوب وعزله، وبالتالي تخلفه عن الشمال. وفي الحقيقة فإن بذور التآمر على الوحدة والميل للانفصال بدأت مباشرة بعيد التوقيع على اتفاقية أديس أبابا عام 1972م، وقبل تقسيم الجنوب أو تطبيق الشريعة في الشمال، واذكر أنني شخصياً وكنت عام 1976م قاضياً بجوبا، قد أشرفت على التحري في مؤامرة فاشلة شارك فيها قادة سياسيون بارزون مثل جوزيف أدوهو وبنجامين بول (نائب رئيس مجلس الشعب الإقليمي آنذاك)، واطلعت على مخطط للاستيلاء على المواقع العسكرية وتصفية الشماليين بالتنسيق مع أبناء غرب السودان. كما عاصرت تمرد سرية الدفاع الجوي واستيلاءها على مطار جوبا في ذات العام 1976م، بعد اغتيال الجنود الشماليين في السرية. ولقد صاحب التمرد الذي قاده كاربينو وقرنق في بور عام 1982م، بعد انتشاره وتمدده في أعالي النيل وبحر الغزال، الكثير من التصرفات الوحشية تجاه رفقاء السلاح من الشماليين، وفي الخاطر المجزرة التي دبرها وليم نون قائد إحدى حاميات أعالي النيل لأفراد الطوف الإداري الذي وصل للحامية يحمل المؤن والوقود والمرتبات، إذ تظاهر القائد بحسن استقبال ضيوفه ثم غدر بهم وهم نيام، وقطعوا أوصالاً والقيت جثثهم في بئر قبل أن يعلن نون تمرده ويعبر بكتيبته الحدود إلى أثيوبيا. والشواهد والأمثال لا تحصى عن المواقف التي أضحى الشماليون فيها قوتاً للخناجر والبنادق، بدءاً من حوادث الأحد الأسود عام 1965م، والاثنين الدامي عقب مصرع قرنق عام 2005م، وهجوم كاربينو الغادر على واو فجر عيد الفطر المبارك عام 1998م، واغتيال التجار الشماليين في مدن وقرى الجنوب، وأخيراً العدوان على هجليج وتدمير المنشآت النفطية. إن الغرض من هذا العرص التاريخي للعلاقة بين الشمال والجنوب، ليس إثارة النعرات العرقية، أو إذكاء نار الفتنة لكنه دفاع مشروع ومثبت عن الشمال الذي ظل متهماً ظلماً وبهتاناً بنقض العهود وخيانة المواثيق. ونواصل..