مايطلق عليه علماء الاجتماع «الحراك الاجتماعي».. نجده ماثلاً أمامنا الآن.. فأنا أزعم أننا في السنوات الأخيرة في السودان، وفي عاصمته تحديداً شهدنا قدراً من الحراك الاجتماعي لا يدانيه حراك في أي بقعة أخرى في العالم.. فجيلنا شهد كثيراً من ألوان هذا الحراك.. لعله بدأ اجتماعياً بانهيار نظام العائلة الممتدة في المدن.. وأنا أركز دائماً على هذا التحول الى الأسرة النواة.. لم يتبعه تطور في النظم إلا بقدر طفيف.. فاستعيض عن تكاتف الأسره بالخدامين وعن الحبوبات بالشغالات.. وتغير نمط السكن الأفقي الى الرأسي، ولم يتبع ذلك اي تطور في النظم المصاحبة.. لاحظ استخدام جهاز الموبايل شهد عندنا رواجاً منقطع النظير، لكننا ما وظفناه وظيفته الحقيقية العملية.. بل زاد من عاداتنا الضارة، فاتسعت رقعة الثرثره الخواء.. وأصبح أداة للكذب والمواربة.. وأداة للتجريح والانتقام والعدوان اللفظي.. ذات حوار مع الدكتور منصور خالد نبهني لتجاهل الزعماء للعوامل الديموغرافية والتغييرات المجتمعية الطبيعية.. وهذا مانتجاهله في خططنا.. المواليد والوفيات.. من هم في سن الشباب والشيوخ.. والنوع أيهما أكثر من الثاني.. هذه بديهيات لا نحفل بها.. بل أن وعينا الإحصائي ضعيف.. ففي ذات مرة كنت اتفاكر مع صحفيين شباب يعملون في مجال الثقافة عن ندوة أقيمت لشاعر معروف في أحد مراكز اللغات.. وقدروا لي الحضور بمئات الآلاف .. ولما ضربت معهم المساحة التي اقيمت فيها الندوة .. وكم عدد الأفراد في المتر المربع الواحد جلوساً وكم عدد الوقوف .. فإنه وبعد المبالغة في التقدير وجدنا أن المكان لا يحتمل الف شخص ناهيك عن مئات الآلاف التي قالوها.. هذا الحس اللاواعي إحصائياً يجعل حراكنا الاجتماعي بلا ضابط ومن ثم تزيد الفجوات.. اتحدى من أحصى على سبيل المثال كم رغيفة تستهلكها الخرطوم.. وكم رغيفة يستهلكها المواطن.. وكم يستهلكها الأجنبي.. بالمناسبة هذه لا تحسب في امتيازات الأجانب العاملين في السودان، إننا نوفر لدولهم كل هذا الرغيف الذي يستهلكه رعاياهم.. وقد يقول قائل: «مانحنا برضو ناسنا في خارج السودان بياكلو رغيف.. لكن ديك القصة عندهم ماقصة رغيف».. نعود للحراك الاجتماعي الذي شهده مجتمعنا.. تجده في طفرات كبيرة.. من السكن في قطية الى السكن في عمارة.. من بيئة تأكل غير القمح الى بيئة آكلة بشراهة للقمح.. من استخدام الحمار الى ركوب العربة.. كل ذلك تم في قفزات كما لو الحقت طلاب الأساس فوراً بالجامعات دون أن يمروا على مرحلة الثانوي.. ولم تكن المشكله مشكلة الناهضين من الطبقات الدنيا الى الطبقات العليا، بل اولئك الذيت تضعضعوا.. الهبوط الرهيب لهم كموازي للصعود هناك.. هنالك قصيدة معارضة تنسب ظلماً لمحجوب شريف تقول : «جاعاً بيوت الشبع وشبعاً بيوت الجوع» وهي سخيفة المضمون.. كأنها تتباكى على الطبقات الثرية.. والتي تدينها القصيدة ذاتها.. إنها كانت شبعى وغيرها جائع فلم تلتفت اليهم.. الآن انقلبت الأدوار.. وجاءت دورة الجوع، هذا الحراك المتسارع والذي لم تصحبه نهضة موازية في التعليم والبحث العلمي.. في الصحة وفي إدارة الموارد أضاعت تماماً ملامح الطبقة المتوسطة، فأتاها وابل من التهميش والاقصاء والعزل.. فأصبح المثقف مرادفاً للفقير المسكين وإلا «باع القضية» ترنحت الطبقة المتوسطة، وهي في جزرٍ ومدٍ بين الطبقة العليا والدنيا.. وهي الطبقة التي تبدع الأفكار واللوحات والأشعار والأغاني.. هي التي تنقل التجربة الإنسانية عبر العلوم والفنون.. هي الطبقة التي كانت تصنع الحياة. الآن جاء زمن يصنع فيه الأغاني الرجرجة والدهماء وغير الأسوياء .. وضمرت المساحات الأخرى وسيطرت الطبقات الأخرى.. العليا بهيمنتها واحتكارها للثروة والسلطة.. والطبقة الدنيا بي ثوراتها وتمردها وحقدها الطبقي. انتبهوا الى الحراك الاجتماعي.. حاولوا رتق مايمكن رتقه، واطرحوا البدائل لأولئك الذين اضطروا الى تغيير ثقافاتهم وأثر بيئاتهم.. طعامهم وشرابهم.. غدوهم ورواحهم.. فرحهم وكرههم.. كلها استلبتها المدينة ولم تعطهم مفاتيح المدنية.