فوزي «بشرى» وعزمي «بشارة».. وجهان لعملة ثورية واحدة.. عملة تتصاعد قيمتها التعبوية على حساب قيمها المهنية في سوق الإعلام وإعلام السوق، الذي تمثل الجزيرة إحدى علاماته الفارقة بإمتياز.. و مع أن لكليهما أثراً نافذاً في تجسيد الحالة الثورية المسماه بالربيع العربي, الأول بما ظل يقدمه من تقارير إخبارية مفعمة بحيوية الإيحاء وبراعة التمثيل والاستشهاد وتمثل النسق القرآني تعبيراً وتصويراً, والثاني بتحليلاته المتفردة لحال الثورة ومآلاتها المحتملة، عبر ما درج يقدمه من خلال مشاركاته الراتبة في برامج حديث الثورة، وفي العمق، أو ضمن التغطيات المتواصلة لمسار الأحداث في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا.. بشرى الذي يحمل من اسمه نصيباً وافراً أحدثت بتقاريره تلك ثورة حطم معها أسوار الحياد الكذوب، وجدر الموضوعية الزائفة، إزاء شلالات الدم التي غمرت الأرصفة والطرقات، حينما آثرت الشعوب العربية أن تضع حداً نهائياً لتراجيديا العبث بأمصارها ومصائرها.. أجمل ما في ريشة فوزي قدرتها الفائقة على انتزاع المعنى من فوضى السياقات وسياقات الفوضى، في عالم غدا أشبه بالرسوم السيريالية، التي يتناهى ظهورها في خفائها.. ودوننا ما أورده في تقريره الشهير بمناسبة إندلاع الثورة المصرية حين قال بصوت جهير الرواء «لو صح للرئيس المصري حسني مبارك في عزلته المزدحمة بالحيرة والخيارات العسيرة أن يسأل المتظاهرين في ميدان التحرير، وفي كل مدينة تظاهرت ضده، ربما كان سؤاله أتقومون بالثورة قبل أن آذن لكم!! إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة وقد يكون تساؤل الرئيس في محله، فليس من شيء وقع في مصر خلال ثلاثين عاماً بدون إذن من مبارك.. لكن كتاب التاريخ المفتوح والمليء بالعبر يقول إن الثورات هي الفعل الوحيد الذي يقع ضد رغبة الحاكم، ورغماً عنه.. ويبدو جلياً أن هذه الأحرف الممعنة في الإفصاح والإيضاح لتتجاوز حدود التقرير الإخباري المعهود إلى استخلاص العِبرات بكسر العين، من فك العَبرات بفتحها، ولهذا أجدني متفهماً الآن لماذا وطأ ابن خلدون تاريخه تحت عنوان طويل ودال هو «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» ولهذا نجد بشرى في تقريره عن سقوط مبارك يهرع للاستجداء بالآية: «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ» صدق الله العظيم وهو سياق مجتزأ من مصير مثله الأعلى في الإستبداد والإفساد.. تاركاً وراءه أمثولة بأن الشعوب أقوى وأبقى من الطغاة، متى صح منها العزم، وإن مثل مبارك في شعبه كمثل زين العابدين، إذ قال له شعبه أصلح فأبى أن يكون من المصلحين، ألا بعداً لمبارك وبعداً لزين العابدين،، قال الشعبان الثائران) مختتماً تقريره الأثير بعبارة بالغة الإيحاء) أفلا يزال في مدرسة القادة والرؤساء من لم يفهم الدرس بعد؟ على بساطته.. ولم يكد يتلاشى صدى التساؤل المشروع، حتى نهض الثوار في ليبيا، تحت ذات الشعار الضاج مع تعديل طفيف هذه المرة الشعب يريد إنشاء النظام، فماذا قال بشرى ؟«كش ملك .. كش يا ملك ملوك افريقيا.. تصرخ الرعية الخارجة من رحم صمت مديد في وجه راعيها، الذي طالما خلع على نفسه كل ما يخطر ولا يخطر في البال من ألقاب العظمة، ثم يذهب بشرى في سيره القاصد نحو الديموقراطية، كلما فرغ من تقرير انتصب لصياغة آخر، فمخزونه من اللغة موفور وسيل الأحداث متصل، وثوار الأعاريب آلوا على أنفسهم أن يجعلوا كل فصول السنة ربيعاً، طلقاً ضاحكاً على قول البحتري، ولكنه ضحك كالبكاء- على قول المتنبيء- أما عزمي بشارة فلم يكتف بتحليل الأحداث سبراً وتتبعاً واستقصاءً، فمضى يوجه الثوار ويضع لهم خارطة طريق آمن لتحقيق أهدافهم غير المكتوبة، ودوننا ما ظل يكتبه من مقالات تؤسس لأفكار ميثاقية للثورات العربية الديموقراطية تنتشل الثوار القدامى والقادمين من حالات التخبط التي عادة ما تعقب الثورات، ورغم تسريبات يوتيوب الأخيرة التي تظهر عزمي وهو يطلب من مذيع الجزيرة التركيز على سوريا، بخلاف البحرين في واحدة من المفارقات الداعمة لنظريات المؤامرة، إلا أن الثورات التي تدرك خطورة الإرتهان للأفراد، آثرت أن تتخذ لها رمزاً لا تلامسه الظنون ولا تبلغ علياؤه المطاعن، أعلمتم الآن لماذا خرج الثوار من محاريب الجوامع؟!!..