وأنا شديد الوله.. بكوكب الشرق أم كلثوم.. هذا الكوكب الدري. الذي أضاء سماء الأمة العربية من المحيط إلى الخليج.. وما كانت أشعتها الفضية الباهرة تضيء.. دروب وقصور.. وأكواخ.. وساحات ومساحات الأرض.. فقد كانت هذه القيثارة.. تتسلل في إبهار ودغدغة.. وحلاوة.. إلى تجاويف الصدور.. وسويداء القلوب.. وعصب ودماء وأرواح الناس.. صحيح أنها كانت في قلب هالات الضياء.. وبؤر الضوء.. تحت وهج الفلاشات.. وأمام الكاميرات قبل «ناصر» ولكن الصحيح أيضاً.. أنها نضجت.. وتفتحت ورودها وزنابقها.. في عنفوان عهد ناصر.. شأنها شأن الإبداع الذي تمدد.. أزهر وأينع.. تحت ألوية الاشتراكية.. من مسرح وغناء ورواية.. وصحافة.. وإذاعة..والصحيح أيضاً أنها.. صارت حقاً وصدقاً.. وقولاً وعملاً.. موحدة العرب.. فقد كانت الأمة العربية كلها.. في ذاك الزمان.. تتحلق.. في الخميس الأخير من كل شهر.. تتحلق.. حول أجهزة الراديو.. والأثير يضج بحفلها المباشر.. ليتساقط.. إبداعاً.. مطراً.. من النغم البديع والرصين من القصيد الرفيع.. حتى.. لملمت.. رداء العروبة من أطرافه.. وهي تغني.. بل تقطف من كل بستان عاصمة عربية زهرة.. بعد أن جمعت الزنابق والورود من حدائق مصر أم الدنيا.. أبحرت على زورق المتعة إلى بيروت.. لتحصد بكفيها القصيد روائعاً.. وكان لقاء جورج جرداق.. وكانت هذه ليلتي.. ثم أناخت.. برحلها.. في مضارب تميم. حيث.. الربع الخالي.. ووادي عبقر وتلال نجد وتهامة.. ومضارب الملح.. والوادي الذي يجلجل بأناشيد الجن.. وشجن الأمراء.. و«ثورة الشك».. والأمير عبد الله الفيصل.. ولأن السودان.. هو.. من مظان بل يقين الزهو.. والروائع والبدائع.. فقد كانت «أغداً ألقاك» وكان الهادي آدم.. وبالأمس.. كنت حضوراً في حضرة أم كلثوم.. بل كنت حواراً في مشيخة أم كلثوم.. والشريط في جهاز التسجيل.. يدور.. ويدور.. والصوت الملائكي يعطر فضاء بيتي.. بل الأزهار تتفتح.. في «السهلة» والحجرات.. والممرات.. وفي كل بوصة من روحي.. و«الست».. تختتم ذاك الشريط.. وهي ترجو وتستعطف.. وتشدو «سيبني أحلم.. يا ريت زماني ما يصحينيش..» وأنا ولأن «السياسة» تعربد في سماء عقلي وقلبي.. لعنها الله.. ولا بارك فيها.. فقد أفسدت حياتي.. وهي تنقلني مباشرة.. من الرياضة وروعة العشب الأخضر.. ومعابثة الأحبة.. إلى رهق شعبي.. ودموع أبناء وطني.. وأولئك الفقراء.. الذين كم يحب بعضهم بعضا.. المهم.. عندما وصلت أم كلثوم إلى.. سيبني أحلم.. انطلقت كل جيوش شياطيني من عقالها.. وهي تتربص في الزوايا والأركان.. وأنا انفصل كلياً من تلك الأمنيات المستحيلة.. من أم كلثوم.. وهي تناشد.. سيبني أحلم.. وأنا فعلاً في تلك اللحظة بدأت أحلم.. ولكن أي نوع من الحلم.. أحلم أحبتي.. بإبن وزير.. أو مسؤول خطير.. أو تنفيذي مثير.. أحلم به يقتحم.. «آخر لحظة».. وهو يشكو من أنه عاطل عن العمل..وقدم في ألف عمل ولم يوفق.. أو أحلم أن أصادف يوماً.. نفس هذا الابن.. أو أي ابن لأي من الشخصيات المهمة في الوطن.. وهو يشكو من تعرضه للحرمان من الامتحان.. لو لم يسدد.. أربعمائة جنيه.. وهي رسوم دراسة.. أحلم بأن أتفاجأ.. بوزير.. يجلس بجواري في الحافلة.. أو «باصات الولاية».. وهو يتجه إلى الوزارة.. أحلم.. بأن أقرأ.. استقالة.. لمسؤول.. على طريقة نظرائه في أوربا.. لأن المصنع الذي يديره قد «خسر» أو المؤسسة التي يجلس على رأسها قد فشلت.. أحلم بأن التقي «بنفس النوع» من المسؤولين.. التقيه في سوق «الرحمة».. وهو «يفاصل» في «كوم» أسود.. أو «ربطة رجلة».. أو ملوة بصل.. ويتواصل.. سيل الأحلام.. وسيبوني أحلم ياريت زماني ما يصحينيش..