كل مشاكل وأزمات العالم الثالث والدول المتخلفة مردها إلى عنصرين لا ثالث لهما هما أساس نهضة وتقدم شعوب ودول العالم الأول، العنصر الأول هو الأولويات وترتيبها والعمل الجاد وفق هذا الترتيب، العنصر الثاني إعمال العلم ونظرياته والابتعاد الكامل عن العشوائية وترك مصائر الشعوب للزمن وتجريب المجرب، قال كبير العلماء الفلاسفة البرت انشتاين في تعريفه للجنون إنه أن تكرر نفس الخطأ وتتوقع نتيجة مغايرة. دائماً ما يلجأ الناس إلى مسألة الأولويات وترتيبها في حالة الأزمات وعندما تحدد الأولويات في حالة الرخاء والأمن والسلام، الآن نحن مواجهون بأزمات بالغة التعقيد بمؤثرات قوية خارجية وداخلية أخطرها الأزمة الاقتصادية الداخلية الحادة المنذرة بالانهيار جراء تصاعد الأسعار الخطير الذي طال السلع الضرورية للعيش البسيط للمواطن والمؤدية مباشرة إلى الجوع، وكما قال الإمام الصادق المهدي الجوع أقوى من الخوف، الآن الأولوية واضحة لا تحتاج إلى اجتهاد الأولوية في إعادة الحياة والعافية إلى الاقتصاد السوداني بأسرع ما يمكن، وقد اعترف وزير المالية الأسبوع الماضي بأن الدولة (مفلسة( ورفع الدعم أحد الأولويات لكن يأتي في الترتيب في مؤخرة الأولويات، لأن وضع ترتيبه الأول لعلاج الأزمة قد يفضي ولو بنسبة احتمال ضعيفة إلى ضياع وموت كل النظام بفعل تذمر وثورات مواطنين عاديين غير منظمين وغير معنيين بمن يحكم ولا هدف لهم لإسقاط النظام أو تآمر لإحداث فوضى تساعد الآخرين المنظمين العاملين ليل نهار، سراً وجهراً لإسقاط النظام في تحقيق أهدافهم المعلنة صراحة. رفع الدعم كأولوية أولى متعجلة تشبه تماماً شفقة أهل المريض بزيادة جرعات الدواء المبرمجة علمياً توقيتا وكمية كلما تعالت صرخاته من الألم إلى الحد الذي يفضي إلى موته بسبب الجرعات الزائدة عن طاقته وتحمل جسمه العليل المنهك. الأولوية الأولى في حالتنا اليوم تتمثل في القبول بحل المسائل الأربع العالقة بيننا وبين حكومة الجنوب والمرتبطة بقرار مجلس الأمن 2046 المحدد حسب القرار إنجازها في أو قبل الثاني من أغسطس من هذا العام، أي بعد 45 يوماً من الآن، وإعلان ذلك بكل وضوح للشعب السوداني وتسليط ضوء ساطع على مآلات حل هذه المسائل الأربع وأهمها إعادة انسياب البترول وعودة الدولارات من صادراته ورسوم عبوره ومعالجته، إضافة إلى عودة دولارات أيضاً غير مباشرة من نصيب دولة الجنوب متمثلة في صادرات 172 سلعة من الشمال إلى الجنوب وبحسابات لا أود إغراق المواطنين في تفاصيلها وطرق حسابها تبلغ على أقل تقدير ثلاثة مليارات من الدولارات سنوياً، هذا خلاف صادرات السودان من نصيبه من البترول والسلع الأخرى متى ما استقرت الأحوال لتعود صادرات السودان إلى حالها الطبيعي في الأعوام 2009 و2010 في حدود تسعة مليارات من الدولارات، مجرد هذا الإعلان والتوضيح يساعد كثيراً في تنفيذ رفع الدعم كأولوية في ترتيب متأخر قليلاً. الأولوية في الترتيب الثاني بخفض مصروفات الحكم المترهل بنسبة لا تقل عن 50%كماً ونوعاً، هذه الأولوية في الترتيب الثاني جاذبة للمواطن العادي والموالي للنظام لتقبل رفع الدعم كأولوية لاحقة. الأولوية الثالثة الإعلان الواضح عن سعي الحكومة في وقف الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق وفق الاتفاق الإطاري الموقع في أديس في 28/6/2011 بين د. نافع وأستاذ باقان والمنصوص عنه في القرار 2046 كمرجعية لاتفاقية جديدة توقف الحروبات في المنطقتين، الأولوية الأخيرة هي رفع الدعم عن كافة السلع بما فيها المحروقات، وتحرير سعر صرف الجنيه السوداني. وكما أسلفنا بمجرد وضع أولويات لاجتياز أي ازمة فإنه وبالضرورة يجب أن تسقط الثوابت والمتغيرات السائدة في غير أوقات الأزمات، أولى هذه الثوابت عند البعض أن الحركة الشعبية عدو دائم يجب إزالتها من الوجود قبل كل شيء، ألم نجلس مع قادتها وتشابكت أيدي قادتنا الحاليين مع قادتهم الراحلين والباقين اليوم، في نشوة وطرب ورقص أمام كل كاميرات العالم في يناير 2005 عند توقيع اتفاقية السلام الشامل في إستاد نيروبي، جلسنا معهم ورقصنا معهم بعد أن فقدنا أعز الرجال والعلماء والجنود والمجاهدين على أيديهم تلك. من الثوابت التي يجب أن تسقط منح الحريات الأربع، وتسقط لأنها في صالحنا أكثر من ما هي في صالح الجنوب، البعض يتحدث عن وجود ما لا يزيد عن نصف مليون جنوبي في العاصمة كلهم يعملون في الأعمال الحرة والصناعة التي يرفضها مواطنونا، وهذا البعض ينسى أن لنا مواطنين سودانيين يفوق عددهم الاثنين مليون مواطن في الشريط الحدودي مع الجنوب في ولايات جنوب كردفان ودارفور من قبائل المسيرية- الرزيقات والهبانية وهم رعاة يطلبون الماء والكلأ في أعماق دولة الجنوب ومعهم ما لا يقل عن عشرين مليون رأس من الماشية. وأخيراً من الثوابت التي يجب أن تسقط أننا لن نفرط في شبر من الأرض، نحن فرطنا وفقدنا ثلاثمائة ألف ميل مربع والمتنازع عليها الآن لا تتعدى العشرة آلاف ميل مربع على الأقل نصفها سيكون من نصيبنا بما فيها هجليج وأبيي حسب الخريطة التوفيقية المقدمة من لجنة أمبيكي والتي وافقت حكومة جنوب السودان على التفاوض وفقها، قطعاً وبطبيعة أي تفاوض سوف نفقد جزءاً من هذه العشرة آلاف ميل مربعة. يا إخوة، السياسة لا تعرف الثوابت، بل تقول أبجديات السياسة إن لا عداء دائم ولا صداقة دائمة ولكن المصالح هي الدائمة. وختاماً يجب أن تزول إلى الأبد من قاموسنا وأدبياتنا كلمة «الانبطاح» فهي كلمة قبيحة ومرفوضة شكلاً ومضموناً إذا تعمقنا في الشكل والمضمون «للمنبطح».. والله الموفق.