الاقتصاد علم وفن وإبداع، علم لأنه محكوم بقوانين ونظريات، وفن وإبداع لأنه علم البدائل المتحركة في ظروف الندرة، وهو بهذه الصفة يعتمد على المعلومات الاحصائية والتوقعات المستقبلية لمقابلة الاأولويات الضرورية.. الأولويات غير ثابتة متجددة تجعل التوقعات في غاية الصعوبة لتحقيق الهدف، وهذا الأمر يشابه مجهود فارس على صهوة جواده، متحرك بسرعة مذهلة، وفي يده بندقية يريد أن يصيب هدفاً متحركاً أيضاً، مهما بلغت مهارته وتوقعاته لمسار الهدف كثيراً ما يخطئ ولا يصيب الهدف. القرارات والاجراءات المالية الأخيرة مجهود مقدر من علماء وخبراء في هذا المجال، وهي لابد منها، وإلا سيحدث الانهيار.. أول إيجابيات القرارات هو القفز المنطقي العملي لسعر العملة السودانية، والذي فيه قدر كبير من الشجاعة والواقعية والصدق، إذ انخفض سعر الجنيه بحوالي 81% من سعره الوهمي البالغ 2.7 جنيها في مقابل الدولار، وفي ذلك رسالة قوية للذين ينظرون من زاوية ضيقة نحو الدولة الوليدة في الجنوب، عن ماذا سيحدث لهم من قطع التجارة معهم، وهي في صالحنا بنسبة 100% إذا انسابت في اتجاه واحد من الشمال الى الجنوب، هذا القطع وتحريم التجارة معهم إضافة الى مواصلة العداء والحروبات وعدم حلحلة المسائل العالقة الأخرى يعيق إعادة انسياب البترول عبرنا، ويلغي عائداته لنا بأي نسبة معقولة لرسوم عبوره، وهذا المصدر هو الوحيد المتاح حالياً لإعادة التوازن الاقتصادي لنا واستقرار سعر العملة المحلية.. الأرقام البسيطة التالية المأخوذة من كتيب المعلومات الصادر من وكالة المخابرات الأمريكية توضح الأثر الواضح السريع للعداء مع دولة الجنوب.. في 2011 كانت الصادرات 7,7 بليون دولار والواردات 8,7 بليون دولار- أي عجز حوالي بليون دولار.. في حين أن الصادرات في العام 2010 كانت 11,5 بليون دولار والواردات 8,5 بليون دولار- أي فائض 3 بلايين دولار.. قطعاً دولة الجنوب سوف تتأثر أكثر لاعتماد ميزانيتها على البترول بنسبة 98% لكن أثر المعاناة لسكانه أقل بكثير من الشمال، لأن أكثر من 60% من مواطنيه خارج النظام النقدي، وأن درجة تحملهم للمعاناة أعلى بكثير من سكان الشمال، لأنهم عاشوا سنوات طويلة في الحروب، ونقص المواد الغذائية.. بنك السودان الذي اعتمد السياسة الجديدة بغطاء دولاري غير معلوم المصدر أو الكمية، لا شك أنه محدود الكمية غير مضمون الاستمرارية، فهو الى النفاذ لفترة لا تتعدى العام على أحسن الفروض، عليه يجب دعم جهدهم المقدر هذا بدعم سياسي مسؤول لحل المسائل العالقة مع دولة الجنوب، خاصة البترول والتجارة من الشمال الى الجنوب، وحل مشكلة أبيي، وترسيم الحدود، وكلها مفضية الى وقف الحروب في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وكلها مضمنة في قرار مجلس الأمن 2046 يجب علينا الاسراع في حلها طواعية، ونحن الآن أصحاب اليد العليا قبل أن تفرض علينا بإعمال القرار 2046 المتحامل علينا، خاصة وقد فقدنا التعاطف الأفريقي في آليات الاتحاد الافريقي والإيقاد.. الآن الجنوب «نايم في الخط» متدثراً بامتثاله لكل متطلبات القرار 2046 ودعم الاتحاد الافريقي المعلن والمخفي تحت عباءة أمريكا، اسرائيل والاتحاد الأوربي. القرارات الاقتصادية الأخيرة علاج مسكن، وليس دواء ناجعاً ولكل دواء آثار جانبية سالبة، سوف تتمثل في ارتفاع أسعار السلع، بالرغم من توفرها وارتفاع سعر الدولار الموازي، لكن يجب عدم قطع الدواء وعدم الاستجابة، أو التفاعل السلبي مع التوجس والخوف من رد الفعل الشعبي المتوقع، والذي يتم زيادته بالتضخيم والشائعات، وفي المقابل يجب تقليل الآثار الجانبية على الشرائح الضعيفة من المواطنين والعمال، بزيادة الدعم المباشر الشهري لمرتباتهم، ومضاعفته الى مائتي جنيه في القطاعين العام والخاص، ليتحمل القادرون- وهم كُثر- هذه الآثار الجانبية.. يجب صرف النظر تماماً عن رفع الدعم عن المحروقات إذ ثبت أن 67% من استهلاك المحروقات يصرف في جهاز الدولة في كل جوانبها المدنية والأمنية، لا أعتقد أن 33% من استهلاك المحروقات سوف يسد الفجوة، لأن كل ما يأتي من مصاريف الدولة مثل ساقية جحا، لا يؤثر في المحصلة النهائية للعائد المادي، هذا كله على المدى القريب. أما على المدى البعيد حتى نهاية الفترة الدستورية الحالية في 2015 تجب إعادة النظر بصورة جذرية في هيكلة الدولة وإنشاء دولة المؤسسات المستقلة الخالية من تشابك الخيوط المؤدي الى عدم الانضباط، والفوضى الإدارية والمحاسبية والرقابية، وتوزيع السلطات على هذه المؤسسات بدرجة تزيل تمركزها في نقطة واحدة، تكون مثل كعب أخيل نقطة ضعف في جسد قوي متماسك في نقطة واحدة، يجب إعمال العقل محل العاطفة التي أدت الى ترهل هياكل الفيدرالية بصورة كارثية استنزفت موارد الدولة المتناقصة.. العاطفة التي أدت الى خلق ولايات بأجهزتها المكلفة إرضاء للبعض رداً لجميل محدود سابق، وفي ذلك خلاف الصرف الباهظ وتعميق للجهوية والقبلية، والتي عادت عنيفة منذرة بكل عوامل التشظي والتفكك.. جهاز الدولة المركزي مترهل بصورة لا تتناسب مع السودان وامكاناته وترتيبه في المجتمع الدولي، يجب إعمال الحكم الفدرالي السليم بإعادة الأقاليم الستة الكبرى- دارفور- كردفان- الشمالية- الأوسط- الشرق-الخرطوم، وإبدال الولايات بمحافظين- 5 في دارفور -3 كردفان-2 الشمالية-3 الأوسط -3 الشرق و3 الخرطوم وإنشاء حكومة واحدة، ومجلس تشريعي واحد لكل إقليم، وبذلك تنتفي ضرورة الحكومة المركزية المترهلة ليتقلص عدد الوزراء المركزيين الى أقل من اثني عشر حتى لاتتقاطع الخيوط وتتشابك مع حكومات الأقاليم الستة. جهاز الدولة السيادي، يكون قيادة جماعية من رئيس دائم وأربعة أعضاء كما جربناها في الماضي، وتكون سلطاتهم سيادية محدودة غير مطلقة تفادياً لتمركز كل السلطات في نقطة واحدة، تكون كعب أخيل في جسد السودان القوي- الجهاز التشريعي يكون جهازاً سامياً منتخباً مباشرة من الشعب يعين رئيس الوزراء بالأغلبية العادية، والذي يعين مجلسه الرشيق الفعَّال لإدارة كل شؤون الدولة.. القوات المسلحة واجبة الاحترام والاستقلالية الكاملة، لحماية الدستور والبلاد، استقلال الجهاز القضائي شكلاً ومضموناً، وقراراته بعد استيفاء كل مراحل التقاضي واجبة التنفيذ على الجميع. السودان قوي متماسك حتى لحظة كتابتي هذا المقال، ولكن ما لم نحلق ونسمو فوق الصغائر ومرارات الماضي، والتمترس في ثوابت لم تعد ثابتة، فإن كل هذه القوة وهذا التماسك سوف يزول في لحظات.. والله الموفق. üمهندس